حين تُغيّب الحقائق قسراً، يصبح الوهم هو الملاذ الوحيد، والمحيط البديل الذي يبني فيه الإنسان علاقاته وحياته، وحين تبلغ الحياة ذلك الحد من المأساوية، يصبح الضياع طريقة مُثلى للحفاظ على ما تبقى من الإنسان بشكل عام.
وفي ظل وضع كهذا يتكاثر صناع الوهم وتجار الحروب والأزمات، ويُنصبون أنفسهم أصناماً متنفذين ونافذين في حياتنا بأكملها، متنكرين في مسوح المخلصين المصلحين، المدافعين على القيم الوطنية والمبادئ الإنسانية، الأمر الذي يجعلنا نملكهم أرواحنا، ونمنحهم الصلاحية المطلقة في كل أمور حياتنا، سواء الخاص منها أو العام، كل ذلك لأننا رأينا فيهم الأمل الوليد والخلاص المنتظر، الذي انبثق ليبدد ظلام يأسنا دون مقابل أو أدنى جهد منا، فنلزم أنفسنا تجاههم بكافة أشكال الطاعة والولاء، ونتهافت إليهم بقلوب مترعة بالشكوى والألم، وأرواح تغصُ بالضياع والغياب، نفصح لهم عن خوف أجيال تعاني الموت البطيء والتهميش الدائم الشتات المزمن، نشرح لهم بكل اللغات وقائع تفصيلية عن مأساة دائمة الحدوث، نسميها مجازاً حياة نعيشها.
وكما هي عادتهم يبتسمون حتى نظن أن خلاصنا قد تنزل عليهم ولم يبق غير أن تلفظه أفواههم وتنشر بشراه على وجوهنا، فنبادلهم بابتسامة تفاؤل ونصغي إليهم، فإذا بهم يحدثوننا عن جمال الطبيعة وسحر الشروق ولغة الأزهار وغناء العصافير في مهرجانها الصباحي، يحاولون إقناعنا أن سبب شقائنا هو عدم تلمسنا مظاهر الجمال حتى في الصخرة الصماء، يتعالون في خطاباتهم وكأنهم فلاسفة الجمال وأرباب الذوق وأساطين التأمل وابحث، متخذين من الحديث عن الجمال والمشاعر الإنسانية غطاءً لجرائمهم ووحشيتهم التي يمارسونها ضدنا.
وليس ذلك فحسب، فمن أدركه العجز منهم وتساقطت أنيابه ومخالبه سرعان ما يتحول إلى واعظ بيننا، يحثنا على الثبات، السمع والطاعة والصبر على المكاره، الحفاظ على مشاعر الآخر ولو كان ظالماً وإن أفضل الكلام كلمة "نعم"، وخلافها كلمة "لا" وعلى هذا المنوال يستمر في وعظه، بينما يغمر عينيه شوق عارم إلى مخالبه العالقة في لحوم قلوبنا.
لقنونا العديد من المفاهيم التي لا نعي كُنهها، لأنها خالفت ما ارتسم في عقولنا وما أوحت إلينا فطرتنا عنها، حتى أصبحت تلك المفاهيم صورة واضحة تعكس حقيقتهم، إذ طالما فرضوا علينا مفهوم الحرية الممزوجة بالقيود، وكرسوا حرية الاختيار في ظل الخيار الواحد، ومنحونا ديمقراطية الصميل، وألبوسنا مواطنة النفي، وكللونا بتيجان الموت ونحن أحياء، وأقاموا لنا الحدائق والمتنزهات والملاهي و...إلخ، في ظل انعدام لقمة العيش وضروريات الحياة وأبسط مقوماتها، وفوق هذا وذاك أرغمونا على الاقتناع بأن من يقول "لا" ليس منا، وهو شريك إبليس وخادمه.
بقي لنا أن نتساءل: ما قيمة الدار إذا فُقدَ الوطن؟ وأي أثر سيتركه جمال الطبيعة في البطون الجائعة والعقول المقموعة، وأي قيمة إنسانية سيحتفظ بها الإنسان في حال ضياعه وتهميشه؟ هل التفات الحكام إلى شعوبهم خادش لكبريائهم؟ وهل توفير لقمة العيش للمواطن كثير عليه؟ ألم يكتف أولئك الساسة بنهب الثروات وتدمير الإنسان وأنهم رغم ثلك لم يُسألوا عما كانوا يعملون؟
وأخيــراً.. يجب أن نعي أن بناء الإنسان قبل بناء الأوطان، وأن كلمة "لا" لن تكلفنا أكثر من "نعم"، وأن تكريس الصنمية وهم زائف، وسياسية الوهم صنمية زائلة، ومن المعيب أن نستبدل صنماً بصنم ووهماً بوهم آخر.
إبراهيم محمد الهمداني
أصنام السياسة وفن صناعة الوهم 1994