لقد مرت على أزمة اليمن الشهور وأكلت عليها الأيام وشربت وتطايرت التوقعات على بساط الآراء والتخمينات، لكن أزمة اليمن لم تنفك أن تبرح مكانها وتفنن اللاعبون بخيوطها في إلباسها الزواهي من حلل الإرباك والتضليل، ليضيع مشهدها المأساوي بين تبرير الأسباب واستبعاد النتائج، وأخيراً اهتدى فقهاؤها (ولعله من الفقه الأعوج) الذي يسترعي من العقاب الرباني الذي يجب ألا يعاقب به إلا رب العباد وحده، فاستوحى شياطينه وأوحت إليهم أن يلبسوا هذه الأزمة لباس الجوع والخوف، هكذا فكروا وقدروا، فقُتل الشعب اليمني حيث قدروا.
والمدقق في مسارات هذه الأزمة المستحكمة، يرى العجب العجاب، وخصوصاً في أطروحات المتعاطين لهذه الأزمة واللاعبين فيها بما تحمله من مصالحهم المتقاطعة وآرائهم المتصارعة، وبالرغم ما خلفته هذه الأزمة من أرقام مهولة في ارتفاع مستويات الفقر ومعدلات مخيفة من التفنن في إهلاك الحرث والنسل، إلا أن جميع الأطراف وبلا استثناء تتعامى قصداً أو بغير قصد عن الالتفات إلى آثارها المدمرة وعواقبها الكارثية التي لو طالت -وقد طالت- فإنها وبلا شك ستأتي على ما تبقى من يابس فتحرقه، ومن تالف فترهقه، إلا أن يتدارك الله هذا الشعب المكلوم المظلوم برحمة منه وفضل.
وبغض النظر عن أسباب إطالة هذه الأزمة وعن أجندات الأطراف الفاعلة فيها والتي يصر كل طرف على إطالة أمدها واستحكام عنفوانها لتحقيق تطلعات مطلوبة وأجندات مطروحة، والتي يخشى أن تأتي آثار هذه الأزمة المدمرة على جميع التطلعات والأجندات، فتجعلها شلواً في مهب الريح، فلا يستطيع أصحابها تحقيق متطلباتهم ولا تثبيت أجنداتهم ويصبح الجميع وبلا استثناء مثلهم كمثل ( المنبتّ الذي لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى).
وفي نظري وحتى يخرج هذا الشعب والذي لا يملك من أمره سوى الترقب لتصرفات اللاعبين والمتلاعبين بخيوطها وأوصلتها إلى عنق الزجاجة والتي تمس نتائجها أسس مقومات حياة هذا الشعب الذي يعاقب بغير جرم ارتكبه وبغير جريرة اقترفها، فإنه لابد أن تحدث أمور ينظر إليها من دائرة المخرج من مربع السياسات والمناكفات إلى مربع دائرة المسؤوليات والأخلاقيات والأمور هي:
أولاً: لابد أن يعلم الجميع أن السفينة قد وصلت إلى درجة الرأس في الغرق، فهي وإن كانت تغرق منذ أمد بعيد، فإنها اليوم قاب قوسين أو أدنى حتى تصل إلى مرحلة الغرق التام، فالقضية أصبحت حياة شعب أو موته لا قضية تحقيق أطماع أو بحث عن مسببات أو الكيل بمكاييل الاتهامات، فإن أسباب الأزمة يعرف بها الجميع ويعرف بها من يستطيع ومن لا يستطيع.
ثانياً: إن عدم التزحزح عن المواقف الراديكالية والترنح والتشبث بالأجندات الخاصة القائمة أصبح نوعاً من الخور لا يسوّغه عقل ولا يقره شرع، بل لابد من بحث عن مخرج يكون فيه الجميع في درجة المسؤولية التاريخية والأخذ بالحلول المقنعة العاجلة القوية، أما شعار ( علي وعلى أعدائي)، فإنه لا يصلح في مثل هذه الأزمة الخانقة.
ثالثاً: ينبغي كف جميع الأفواه سواءً أفواه أبواق الإعلام أو أفواه المدافع والإجرام وبكافة الوسائل الممكنة بدءًا من النصيحة وانتهاء بالضرب على أيدي المتسببين في تعميق روح الفرقة وترويج أطماع المصلحة.
رابعاً: إن تضييع الأوقات في المماحكات السياسية والتصريحات العبثية والترتيبات البروتوكولية ليس أوانه الآن، فإنما هي تحتاج إلى أرضية لتثبيت الأمان واستقامة الحال وتكوين الأطر الممكنة لاستيعابها، فالحال الآن حال تحمل المسؤولية والشجاعة والإقدام وإتمام ما لم يتم إتمامه وتهديم ما لم يهد بنيانه من بقايا معالم الفساد وإزاحة جميع أركان التلاعب والإفساد.
خامساً: إن انتظار دهاقين الفساد والمتلاعبين بالثكالى والجياع حتى يضعوا ما بأيديهم وتتساقط جميع مقومات قواهم، فإن ذلك ليضع الحبل على الغارب لهم حتى يغرقوا السفينة بما فيها ومن فيها وهم سبب تيهانها وضياعها.
سادساً: إن مقتضى تحمل المسؤولية في مثل هذه الأوقات العصيبة واللحظات التاريخية المهيبة، ليلقي على عاتق من تصدر للتغيير وناصروه حملاً ثقيلاً، يحمل صاحبه تبعة في تحديد طريق مفصلي لخروج هذا الشعب من عنق زجاجة هذه الأزمة المستحكمة، ويضع أمامهم ونصب أعينهم أنه لابد من حسم الموقف وتحديد الخيارات وعدم التردد والتلكؤات، فإعطاء فرصة وتضيع أخرى، لتتبعها غصة ليس في منهج التغيير في شيء ولا من حكمة التدبير بشيء.
سابعاً: إنه لابد من مقام الوعظ والتذكير للأطراف المتدخلة لحل هذه الأزمة والمتمصلحة في تعميقها يقتضي أن نقول لهم قولاً بليغاً في جانب ونشرد بمن خلفهم في جانب آخر، فإن استخدام عصى الإذعان والتنازل فقط ليملي في مثل هذه الأطراف في الاستمرار في اللعب على حبال التماهي والتحايلات، حتى وإن كان ذلك على حساب معاناة المظلومين والجياع، فإن مبدأهم يدور حيث تدور المصلحة، فلابد أن نشرد بمصالحهم ونحذر من استمرار التمادي في تعميق الأزمة وإطالة أمر المفسدين.
أخيراً: فإن الناظر إلى حال الأزمة اليمنية اليوم وما أصابها من ترهل وركود، ليعلم أن ذلك إنما كان لأسباب ثلاثة لا يخرج عنها، أولها: إذعان الفاعلين فيها للضغوطات, وأطماع الضاغطين فيها , واسترسال المهمشين فيها في انتظار ما يخرجه الضاغطون والطامعون.
علي مبارك ملص
من ألبس اليمن لباس الجوع والخوف 2259