هي مأساة الوطن ومشكلته المستديمة، بل إنها الإعاقة المزمنة والشلل الذي يستحيل شفاؤه، ليست أزمة اقتصادية وإن كانت موجودة ومستفحلة ومعقدة، وليست أزمة الوقود والطوابير التي ليس لها نهاية، ليست مشكلة الغلاء وإن كانت تقصم الظهر وأكلت الأخضر واليابس وادخارات العمر وتذهب بحلي النساء من الزينة إلى القوت حتى لا تموت الأم ولا الطفل يموت، ليست الكهرباء التي تنقطع ولا تكاد تستمر، تنطفئ ليلاً ونهاراً وكأن استمرارها جريمة وحراماً، ترحل كل صيف جماعات من البشر ابتلاهم الله بأمراض السكري وضغط الدم إلى القبور وتعلن لهم كل عام أن عليهم لبس الأكفان، فالكهرباء من أمامهم والحر من خلفهم، فليس لهم من مفر إلا السير إلى القبور وبدء الانطلاق لرحلة يوم النشور.
ليست المشكلة في الصحة التي هي أقرب للعلة، لتردي خدماتها وكوادرها المؤهلين بالغلط والموظفين بالغلط، ضحاياهم أكثر بكثير من الذين ينقذونهم أو يساعدون على شفائهم، ليست المشكلة في التربية التي تردى فيها التعليم وهوى في مكان سحيق منهجاً, ومعلماً, وطلاباً, وباحثين, فمن ينجحون بالغش والتزوير هم المتفوقون ومن يتعلمون لا يترك لهم مجالاً حتى يعملون.
ليست المشكلة في الإعلام الذي يدلس ويكذب ويمارس دور النفاق الوقح، متفوقاً فيه على عبدالله بن أُبيْ قدراتٍ وأداءٍ, وتمكن من تزييف الحقائق، لأنه يستخدم التكنولوجيا التي افتقر إليها عبدالله بن سلول في ساحات يثرب.
إذاً أين هي المشكلة إذا لم تكن كل هذه الأزمات والمآزق والمشاكل التي وصلت حد مرحلة الخطر وتوشك أن توصل البلاد مرحلة الانهيار الكامل؟، سؤال قد يسأله البعض؟ والحقيقة أنه تساؤل في مكانه، يثير الاستغراب ويضع الكثير من علامات الاستفهام ويبحث عن جواب، وقد يكون الجواب مختصراً أكثر مما نتصور، لأنه ربما لا يتعدى كلمة واحدة يمكن وضعها بين قوسين هي ((الإنسان))، والإنسان هنا هو من نعني به المتسبب والمخطط والمنفذ والمدبر لكل هذه الأزمات والمشاكل والمخترع لها والمبدع فيها والمتفنن بإخراجها، الإنسان السادي الذي يتلذذ بعذاب الآخرين، الجامع بين أوصاف الشيطان وسوسةً، وإيحاءً، ومكراً وخديعةً، ومواصفات العلق والبعوض الذي لا يعرف كيف يعيش إلا عن طريق مص الدماء ولا شيء غيره يمكن أن يشبعه أو يُرضي نهمه.
الأزمة أزمة ضمائر وأخلاق وقيم، الأزمة أزمة إنسانية غائبة عن الإنسان الذي يشبه الإنسان هيكلاً ويشبه الوحش سلوكاً وتصرفاً وافتراساً، الأزمة أزمة نزاهة وشرف خنقتها ربطات عنق البعض وخنقت معها بقية القيم، الأزمة أزمة إنسان غائب عن تولي حقيبة الوزارة وأزمة إنسان غائب عن تولي إدارة الإدارة، الأزمة أزمة أمانة ونزاهة لا تتواجد في قائمة المواصفات من يتولون المناصب الحكومية إلا من رحم ربي، الأزمة أزمة مستشارين محيطين بأصحاب القرار لا يتورعون عن تقديم مقترحات وخطط يتفننون فيها في تعذيب المواطنين على امتداد الوطن، والدليل أنها ليست وليدة اللحظة أو اليوم أو الشهر، بل هي أزمة ممتدة متأصلة، يديرها هؤلاء ويبحثون عن تطويرها، لأنهم لا يمكن أن يستفيدوا في ظل وضع آمن ومستقر، فهم لا يجيدون الاصطياد إلا في الماء العكر.
ويقنصون الفرص التي يجدونها متاحة أما مهم كلما عصفت بالوطن أزمة هم صانعوها ومنفذوها، حتى يستثمروها الاستثمار الأمثل عندما ينشغل الجميع بهمه المعيشي، بينما يخلو الجو لهم يمارسون فيه أنشطتهم ويتسلون ويمرحون بعذابات الناس, ويشغلونهم بسفاسف الأمور وتوافه القضايا, لأن الأزمة لا تعنيهم إلا من ناحية أنهم يستفيدون منها وتقضي مصلحتهم الحفاظ عليها وتطويرها ولهذا لا يمكن أن تحل للوطن أزمة وهؤلاء موجودون أو تنقشع عنهم غمة وهم يديرون الأوضاع ويمتلكون قرار، ولجميع المغفلين الذين يرددون شعارات وهتافات تتناقض مع واقعنا ونقول لهم صح النوم أيها المغفلون.
علي الربيعي
أين أزمات الوطن الحقيقية؟ 1772