الحصيف المتمرس يعلم علم اليقين أن الوطن اليمني يدار هذه الأيام من خلال إشعال الحرائق، وخلق الأزمات المفتعلة، ومن خلال الحصار الجائر الغير معلن، والعقوبات الجماعية، والكل يدرك أن جبروت الحكام، وعنفوان الساسة، يقضي يوماً بعد يوم على ما تبقى من الحياة الكريمة للمواطن، فالكل يصرخ من جور الحياة ومن قسوتها ومن ظلم الأيام، ومن سياسة العقاب الجماعي الممنهج، فصرخات الأطفال والمرضى وكبار السن تسمع في عنان السماء جراء انطفاء الكهرباء، واختفاء وقود الديزل والبترول والغاز والكيروسين، كما أن معاناة الناس من ارتفاع الأسعار، وتفاقم الوضع الاقتصادي وارتفاع نسبة البطالة، وتوقف الصيادين عن العمل جراء انعدام مادة الديزل، وتهديد المحاصيل الزراعية بالتلف نتيجة توقف مضخات المياه، وشلل إن لم نقل توقف المنشآت الطبية الحكومية والخاصة، كل ذلك يجعلنا أمام تحول دراماتيكي في محددات ثورة التغيير والإصلاح، من ثورة تطالب بالعدالة والمساواة والشراكة والمشاركة، إلى ثورة للجياع سوف تأكل الأخضر واليابس، ثورة جياع لن يكون بمقدور أحد أن يوقفها، ثورة جياع لن يكون بمقدورها أن تنتظر المخرج من خلال الفعل السياسي الذي يمكن أن تقدمة أطراف اللعبة السياسية.
إن المرحلة التي نمر بها اليوم، وحالة التخبط التي تسير عليها جل الوزارات والمؤسسات العامة في الدولة قد أفرزت فئة تستغل الوضع المأزوم، لتمارس الفساد والإفساد جهاراً نهاراً دون رقيب أو حسيب، بل إن الأمر تجاوز ذلك ليصل إلى التدليس على الناس واستغلال حاجتهم والتضليل عليهم لفساد معيشتهم، وأنا هنا أضع السؤال أمام كل ذي بصيرة، كيف ومن أين يحصل تجار السوق السوداء على مشتقات النفط من "الديزل والبترول والغاز والكيروسين"؟، خاصة إذا علمنا أن الحصول على هذه المشتقات يجب أن تتم بإحدى الطريقتين، أما استيرادها كمواد جاهزة للاستخدام (جاهزة للبيع) أو من خلال تكرار النفط الخام في مصافي الدولة (مصفاة عدن ومصفاة مأرب) والتي تشغل من خلال مهندسين وفنيين وموظفين رسميين، وفي كلا الحالتين نجد الدولة هي الجزء الفاعل والرئيسي لوصول هذه المواد إلى الأسواق، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تصل المواد إلى السوق السوداء ما لم ترغب الدولة في ذلك، فتسهل الأمر لدخول المواد إلى السوق بالطريقة التي نجدها اليوم في الشوارع والحارات، وهناك طريق ثالث لتوفير هذه المواد للسوق السوداء دون أن تكون للدولة يد فيها، وذلك من خلال سحب تجار السوق السوداء لهذه المواد من انهار وبحيرات بترولية جاهزة للاستخدام وهنا نكون أمام معجزة إلهية حبانا الله بها دون سائر خلق الله، "فالبترول والديزل والغاز والكيروسين" انزل من السماء لليمنيين دون عناء ودون الحاجة إلى تكرار النفط.
يجب أن لا نحمل أمر انعدام مشتقات النفط ما لا يحتمل، فقط من أجل أن نحقق مكاسب سياسية، إذ أن التسليم بأن بعض الخارجين عن القانون في مأرب هم فقط وراء هذه الأزمة النفطية يعد من السذاجة ما يجعلنا نؤمن أن النظام قد أصبح لا يعي ما يدور من حوله، وتلك والله هي الطامة الكبرى، إذ يضع السؤال نفسه: ماذا عن المشتقات التي يتم استيرادها، خاصة مادة الديزل التي تستورد من الخارج وتصل إلى ميناء الحديدة أو عدن ولا تمر بمنطقة مأرب، أين هي الدولة من تأمين وصول هذه المادة على أقل تقدير إلى المواطن عبر الطرق الآمنة التي تمر من الحديدة وعدن إلى صنعاء وتخترق معظم محافظات الجمهورية.
المشهد المؤلم أن الطبقة الوسطى في المجتمع سُحِقت ومادون الوسطى اختفت وتلاشت تحت خط الفقر المدقع، ولا رقيب ولا حسيب، ونريد من الله الفرج، والفرج بعيد المنال في ظل الصمت القاتل على الظلم الجائر الذي يلف واقع حياتنا.
نحن أمام تساءل هام: أين هي هيبة الدولة في كل ما يجري من حولنا؟، وأين منطق دولة المؤسسات والقانون التي يجب أن تكون قد تشكلت خلال ثلاثة عقود؟، فإذا علمنا أن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، فأين هي الدولة التي تفرض هيبتها وتطبق قوانينها؟، فكما هو معلوم أن مفهوم هيبة الدولة يتجلى في عنصرين أولهما الرهبة وثانيهما الخشية، وأن ما تبثه الدولة في نفوس العامة من شعور بالتهيب والوجل هو المانع لهم من تحدي الدولة أو انتهاك قوانينها وأنظمتها، وهو ما يثّبته اقتناعهم بأنهم إن فعلوا سينالوا العقاب الرادع، وإذا كان من يستهدف محطات وأبراج الكهرباء هم فئة ضالة الكل تبرأ منها (سلطة ومعارضة)، فأين هي الدولة التي تضرب بيد من حديد على المارقين؟، وأين دولة المؤسسات والقانون التي كنا نعتقد أن بها من القدرة ما يمكنها من فرض هيبة الدولة على الصغير والكبير، فلا تضعف هيبة الدولة أمام العواصف المفتعلة؟، وأين هي قوة وجبروت الآلة العسكرية التي قذفت بحممها على رؤوس الشباب في ساحات التغيير؟، وأين هو المسؤول الذي يتق الله في الشعب الذي رضي بأقل القليل وعجز الكل عن توفير هذا القليل؟، وأين رجال الدولة الذين يراعون الله في هذا المواطن المغلوب على أمره، فيعملوا على درء دعوة المظلوم التي ما إن رفعت إلى السماء، فلا حجاب بينها وبين الله؟، وأين هم رجال اليمن الشرفاء الذين يعون دورهم، فيقوموا بأداء واجبهم ولو بالحد الأدنى من الجهد؟.. والله الموفق.