محافظات الجنوب لم تعرف في تاريخها مثل هذه الأوضاع المنفلتة أمنياً وخدمياً ونظامياً وحياتياً، فحتى في الأزمات والكوارث الواقعة في زمن الدولة الشطرية السابقة أو في كنف الدولة الموحدة بقت الدولة قائمة بسلطاتها ومؤسساتها وخدماتها وهيبتها، لم يقل يوماً بأن الإطاحة بالرئيس قحطان أو سالمين أو عبدالفتاح أو علي ناصر تسبب في تأخر المرتبات أو انقطاع الكهرباء أو زيادة الأسعار أو غياب القانون والنظام.
نعم رحل المستعمر البريطاني ولم يرحل النظام والقانون،ذهب جميع حكام الجنوب وبقت الدولة المدنية بمؤسساتها وتشريعاتها وقوانينها وخدماتها المحدودة وثقافتها وإرثها، فبرغم تلكم الظروف الصعبة وبرغم تلكم الأحوال القاسية والمؤلمة التي مرت بها هذه المساحة وأناسها، إلا أن الحالة لم تصل يوماً إلى هذه الوضعية المشاهدة والتي باتت مهددة للدولة ذاتها ونظامها وسلطتها.
اليوم وصلت الأوضاع إلى حالة تنذر بصوملة الجنوب، فهذه جماعة تقطع الطريق والكهرباء وتلكم جماعة تستولي على قاطرة ديزل أو تسطو على مرتبات المتقاعدين والموظفين، لكم أن تتصوروا كيف أن البنك لا يعمل نتيجة لانقطاع التيار أو انعدام الوقود؟ كيف أن البريد لا توجد فيه سيولة نقدية وكيف أن المستشفى الحكومي لا يستقبل المرضى؟ وكيف وكيف؟.
مؤسف جداً ما نراه بأم العين ونعيشه لحظة بلحظة، لقد وصل الأمر بنا إلى هد ما بقي لنا من شكل الدولة، لطالما قلنا وحذرنا من صوملة الجنوب على أيدي جماعة عيديد أو شللة أو مللة، تصوروا المآل المأساوي الذي ينتظرنا في حال صار في كل خمسين متراً جماعة ونقطة وعلم وزعيم !.
إننا كمن يحفر قبره بيديه، فلا يبدو أن هناك من يفهم ويعي معنى أن تكون هذه المحافظات خارج سياق الدولة، نحن لا نستطيع العيش إلا في حمى دولة ونظام وقانون، الذين يتوهمون أنهم بقطعهم للطريق والكهرباء وبصعودهم ربوة أو نصبهم خيمة على قارعة طريق قفر؛ يؤسسون ويقيمون نظاماً، فهم إنما يشرعون في هدم وتخريب آخر بنيان وحجرة في الدولة.
نعم هذه الدولة هي الآن في أوج ضعفها وهشاشتها ولكن تذكروا أننا مازلنا نستظل تحت سقفها، فلا غنى لنا عنه، فهدمه كلياً يعني سقوط ما تبقى من الدولة وحين تسقط الدولة فهذا يعني الصوملة وعندها لا ينفع الندم.
أرجو أن أكون قد أوصلت الفكرة، فالصوملة لا تكون في الشمال الذي مازال مجتمعه تقليدياً وقبلياً متماسكاً، بل تكون في الجنوب وحيثما المجتمع ولاؤه كلياً للدولة وسلطاتها.
محمد علي محسن
صوملة الجنوب ثانية 2396