ببزوغ نور الإسلام في المدينة أشرقت شمس الدولة المدنية على المدينة المنورة، فقد أنشأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم دولة مدنية يسود فيها القانون ويتحقق فيها العدل، ويلتزم الناس فيها بالنـزعة الإنسانية في معاملاتهم، ويعلون من شأن حقوق الإنسان وكرامته، ولم يوجد في الإسلام دولة دينية تقدس كلام البشر، فحتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشُر فضَّله الله بالنبوة والرسالة، فطاعته ليست لذاته وإنما لنبوته ورسالته، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ} (64) سورة النساء. فإذا تعامل بصفته البشرية فلا حرج في ذلك وعلى هذا بيعه صلى الله عليه وآله وسلم وشراؤه وسائر معاملاته التي يتعامل بها بصفته بشر ا وليس بصفته نبياً.
إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقام دولة مدنية تقوم على ركيزتين أساسيتين هما: المواطنة وسيادة القانون، ومن المواطنة جاءت العدالة والمساواة واحترام حقوق الإنسان وحريته، ومن سيادة القانون كان تحديد الصلاحيات، وإنفاذ مواد القانون على الجميع بلا تمييز، والفصل بين السلطات، وعدم التلاعب بنصوص القانون، فقد لعن الله اليهود لأنهم تلاعبوا بالقانون الإلهية حين كانوا يأخذون ما حرم الله عليهم فيبيعونه، وإن الله تعالى إذا حرم شيئا حرم ثمنه.
إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وضع أول دستور مدني في تاريخ العرب حال تأسيسه لدولة الإسلام في المدينة برغم كونه على رأسها، بل وضع دستورا يحدد المهام والواجبات لكل الأطراف والفئات، ويعترف بالتنوع ويحميه، ويقوم ذلك الدستور على مبدأ المواطنة، الذي ينص في آخر بنودها على أن كل خلاف مرده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
إن مبدأ المواطنة المتساوية ظل مرعيا طوال الوقت، فحتى وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانت التعاملات الحياتية قائمة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين غير المسلمين، ففي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مات ودرعه مرهونة عند يهودي.
إن الدولة المدنية التي أنشأها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكدت الحرية في كامل تجلياتها، فالدولة التي أقامها دين الإسلام، وأسسها نبي الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم، قد احتوت في مواطنتها كل الأديان السماوية، بل احترم الإسلام روابط العشرة والمعاشرة حدا بلغ جواز أكل طعام أهل الكتاب والتزوج من نسائهم، ولم يفرض المسلمون دينهم على أحد من الخلق، وفي هذا احترام لا نظير له لحرية الإنسان وكرامته.
إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنشأ دولة مدنية تقوم على أساس احترام سيادة القانون، حيث ظهرت تلك السيادة في كل مناحي الحياة، ولعل أبرز مثال يهتز فيه تطبيق سيادة القانون حين يقدم على مخالفته أكابر القوم وكبار الناس وأشراف المجتمع، وذوي الوجاهة فيهم، عندئذ يكون الاختبار الأهم لسيادة القانون واحترامه وإمضائه وإنفاذه، كما هو دون تبديل أو تعديل أو تحويل، بدون الالتفات إلى هوية الذي اخترق القانون وخالفه، ولعل أبرز محنة لسيادة القانون في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين سرقت المرأة المخزومية، فهم الناس شأنها، فأمضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما نص عليه القانون الإلهي، وعندما تابت كانت عائشة ترفع حوائجها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إن رئيس الدولة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حسم الموقف بتطبيق القانون وإنفاذه كما هو، هذا من جهة ومن جهة أخرى فقد أقام الحجة الإعلامية بالخطبة في المسلمين لتحذيرهم من مغبة التمييز في تطبيق القانون، ويؤكد أن ذلك التمييز هو طريق الهلاك الذي هلكت بسببه الأمم السابقة، عن عائشة رضي الله عنها أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: ومن يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة ابن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أتشفع في حد من حدود الله". ثم قام، فاختطب، ثم قال: "إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" متفق عليه.
إن سيادة القانون هي السمة الأبرز في العصر النبوي، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجري ذلك على الناس جميعا بما فيها نفسه الشريفة صلى الله عليه وآله وسلم، فقد اقتص من نفسه لبعض الصحابة رضي الله عنهم، وحين قال الصحابي: إن بطني كانت مكشوفة، وهو ما يعني أن يكشف رسول الله صلى الله علي وآله وسلم عن بطنه ليقتص منه، فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكشف بطنه، ومكنه أن يأخذ القصاص منه صلى الله عليه وآله وسلم.
إن تحديد الصلاحيات وفق القانون كانت قضية التزام تام من النبي صلى الله عليه وآله وسلم باعتباره رئيس الدولة، فليس هنالك خلطا بين بشرية النبي صلى الله عليه وآله وسلم باعتباره بشرا، وبين كونه نبيا مرسلا واجب الطاعة في كل ما يصدر عنه، ومن هنا فليس هنالك دولة دينية في الإسلام أصلا، فالدولة التي أنشأها النبي صلى الله عليه وآله وسلم دولة مدنية تحتكم إلى القانون وتلتزم به، فها هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم يشفع إلى بريرة في زوجها وها هي ترد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشافع أم آمر؟ أبصفتك البشرية أم بصفتك النبوية، فأوضح لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه شافع فقط؛ أي بصفته البشرية فلها القبول أو الرد، فلم تستجب لشفاعته، وردت بلطف شديد قائلة: لا حاجة لي به.
إن سيادة القانون مسألة نجاة أو هلاك في كل شيء حتى في الألعاب، فإن اختراق القانون في أية لعبة يفسدها، ويدب بسببه الخلاف بين أعضائها، وإذا كان الأمر كما أسلفنا ـ وهو كذلك بالفعل ـ فإن سيادة القانون المستند إلى شريعة الله تعالى، وهي الشريعة المراعية لمصالح عباد الله، ومن خلال تطبيقها نقيم أمر الله وتكون الحياة أكثر أمانا وأوفر رخاء، ويرجع ذلك إلى تحقيق العدل الذي هو اسم من أسماء الله ضمنه الله تعالى في شريعته، ويرجع كذلك إلى انتفاء المحاباة التي تلزم الصفة البشرية التي تلزم البشرية محاباة نفسها وجنسها وطبقتها وفئتها؛ فيتحقق بذلك المساواة، فلا تظهر غلبة لأحد على أحد فالكل يطيعون الله تعالى.
إن قولنا: إن التزام شريعة الله المنـزلة هو الخير والصلاح يوضحه قولنا: إن التزام شريعة الله الكونية هو الخير والصلاح، ذلك أن مخالفة شريعة الله الكونية يوصل الحياة إلى الدمار، فمثلا لو أن إنسانا حاول أن يأكل عن طريق عينه لأفسد العين، ولم يحقق غرضه، ولكان عمله كله فسادا وإفسادا، وهو ما ينطبق تماما على المخالفة لسنة الله تعالى في الشريعة المنـزلة.
إن سيادة الشريعة الإسلامية في الدولة المدنية الحديثة التي ننشدها ونسعى إليها تعني أن الخير كله مكفول للجميع، وأن العدل متحقق من خلال التساوي أمام القانون، وأن الثروة حق عام لكل مستحق منها نصيب كفلته الشريعة وألزمت الدولة به، وأن حقوق الإنسان مكفولة ومحمية ومحفوظة، فقد حفظت الشريعة للإنسان حقوقه كاملة في الكليات الخمس، فكفلت حرية التدين وحرية المعتقد، والحفاظ على الدين، قال الله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (256) سورة البقرة. وحفظت النفس فحرمت كل عدوان عليها، وتجاهها في كل حال، قال الله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} (32) سورة المائدة. فجعل الله العدوان على نفس واحدة بالقتل بغير حق قتلا للبشرية جميعا. وحفظت المال ودعت إلى استثماره وتنميته وإقامة التنمية بكل صورها وأشكالها المشروعة، وحرمت كل ما من شأنه الاعتداء على المال، وأكل أموال الناس بالباطل، قال الله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (188) سورة البقرة، وكسرت احتكار المال بين فئة أو طبقة، قال الله تعالى: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ} (7) سورة الحشر. واهتمت بالعقل وحفظه وتوسيع مداركه وبنت التوحيد على العلم قال الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} (19) سورة محمد، وحفظت العرض فجعلته مصانا ومحاطا بكل حماية قال الله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} (32) سورة الإسراء، وفي حماية العرض حماية للنفس والطفولة والأسرة التي هي نواة الوجود الإنساني، وهكذا تعمل الشريعة على العدل، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (8) سورة المائدة. والرحمة التي هي الخصيصة الأساسية للرسالة النبوية، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } (107) سورة الأنبياء.
* رسالة لرئيس الجمهورية بالإنابة
أنتم عنوان المرحلة، أنتم جسر الوصول إلى يمن جديد، أنتم بوابة الولوج إلى تاريخ اليمن المعاصر والدولة المدنية الحديثة، يمن يسود فيه العدل، اليمن تدعوك للقيام بواجبكم، فبالله عليكم لا تتأخروا، لقد أنقذ الله اليمن بكم من الإنفصال في صيف 94م وهاهي اليوم تدعوك أن تتقدم فتنقذها من اختطاف بقايا نظام صالح للجمهورية، وانتهاكهم للدستور، وظلمهم لليمن، أنت لها، والشعب يثق فيكم، وقد وهبكم الله الملك دون أن تريقوا للوصول إلى الكرسي قطرة دم، ومنحكم قبول الثوار برغم أن صالح تمنى أن يسمعوه فلم يفعلوا، وتوسط بكل أحد أن يستجيبوا له، فأبوا عليه، واليوم أنت تقدر أن تصنع لليمن تاريخا جديدا، وتحميه من فلول النظام كما حماه الله بكم من الانفصال، والشعب كله معكم.
د. محمد عبدالله الحاوري
الدولة المدنية التي نريد 2334