فرق بين جيل حاطب شوك، وآخر زارع ورد، بين جيل ظلامي يرتاح للعبودية، وجيل من حلم وحرية ووفاء؛ الأول يقتات من القتل وشهادة الزور ومداجنة الظلامي، والآخر يصنع ثورة، ينتمي لحياة، يفتح أفقاً جديداً.
هي إذاً مسألة أخلاقية في المقام الأول وانتماء إما إلى (الإنساني) أو إلى النفاق، حيث يذهب أبواق الاستبداد من الجيل الثاني وشيء من مناطق تزييف الحقيقة وممارسة سطوة الكذب رغم حداثة سنهم، يتآلفون مع الدم والقتل بثمن بخس، ومن ذات الجيل من يختار شرف الانتماء للوطن ويقدم حياته راضياً في سبيل الحرية والتخلص من الاستبداد والفوضى وهو في ساحات التغيير ينتمي إلى الوطن حباً وجمالاً، ولا يقبل بغير الانتصار للوطن..وفي الاتجاه المعاكس ثمة جيل يعمل بلا هوية، يقبل بوظيفة مرابٍ , يقدم نفسه ديكوراً لما ليس إنساني، يلقي على المشاهدين كثيراً من الضنك ويقبض اليسير بانتظار وردية أخرى ومزايدة إضافية، فلا أقنع جمهوراً ولا تخلص من عذاب ضمير وأقلع عن إطلالة كئيبة.
هذا الجيل رغم حداثته متهور يفرح بالآني, يريد الوصول وإن على حساب جيله الذي ينشد السلام والحرية, كأنه يختار ما تبقى من الفتات، لا ينظر إلى زملائه الذين رفضوا امتهان الكذب على حساب شهداء أبرياء، لذلك يهتبلون الفرصة لوظيفة لا تستحق أن تكون وظيفة.
هكذا يتولد جيل إعلامي هزيل يرتكب الغلط ويفرح, يبتهج لكذبة أكثر اتقاناً، يدعونا هذا الجيل لأن نرثى لحاله وقد وقع في أزمة ضمير من بداية مشواره المهني إن جاز هذا المعنى، يتلفت يميناً وشمالاً وقد غادر كواليس الشاشة جيل سابق بأكمله إخلاصاً للوطن وتعبيراً عن تضامن مع شباب الثورة والوطن، بينما القادمون غرباء على الشاشة يبنون علاقة مع الجمهور من البداية غير جديرة أن تصمد لزمن قصير بعد انجاز شباب التغيير ثورتهم.
إذاً نحن أمام جيلين متجايلين تماماً في ذات العمر ولكن ثمة مغايرة بينهما في التطلعات والأحلام والنضال.. جيل الشاشة الرسمية وما في حكمها يمارس الغواية وهواية فن الكذب وإلقاء المعاذير، وجيل ساحات الحرية يتقن تجويد الفرح ,يتغلب على الآني ويقهر القهر ويقبل بالجوع ويقاوم، يخوض معترك التحدي بفخر وثقة مهما عانى وجاع وتعرض لأخطار ,لكنه مؤمن بعدالة قضيته إلى أبعد مدى.
هذا الجيل يصنع حياة ويشق فضاء الحرية ويكشف بالمقابل عن جيل تطلعه انتهازي لمجرد دخوله أول كذبة يصل معها إلى التصديق بها، وتلك أزمة إضافية ستنفتح مستقبلاً على الجيل التدجيني ليعاني من خيبة كذب وأزمة ضمير وفقدان علاقة احترام متبادل مع الآخرين.. صحيح أنه يعاني من الفاقة ويبحث عن وظيفة ويسعى لتكوين مستقبل، لكنه قد تعثر لمجرد قبوله ما رفضه الآخرون.
في هذا السياق ثمة تحول قادم لا يقبل بقيم فساد وغش وتزييف وتتكون من هذا ثقافة جماهيرية تدين الكلمة اللاموقف، الكلمة الهزيلة المعنى الركيكة الحرف التي تحاول أن تنحو باتجاه الغلط من أول أيام الشباب.
هذه الثقافة الناقدة المتبصرة المنتمية وطنياً، يصنعها بدقة جيل خلاق يحترف الحقيقة والحب، يرفض كل أشكال الزيف ولا يقبل بغير الحرية إبداعاً، وهو من يكشف السلبي ويشير إليه ,يجعله محتضراً أخلاقياً، لأنه اختار أستوديو القلق وتوتير الأجواء والكذب على دماء الشهداء بأنهم ليسوا شهداء، وان دماءهم التي تسقي شجرة الحرية هي صبغة حمراء.
إذاً كيف يستمرئ جيل الشاشة الرسمية الحديث جداً مضغ لقيماته؟ كيف له أن لا يصاب بغصة في الحلق وهو يتناول فطوره الصباحي من تزييف حقيقة وشهادة زور؟.. أخلاقياً يتعذب الضمير، وترتعش الأصابع وهي تفرت خبزة مغمسة بالنفاق؛ وكأن هذا الجيل قبل بالعذاب النفسي مبكراً وعبر عن تهور مخيف وعن ثقافة انهزامية تماماً، لذلك نحن أمام جيل واحد ومفترق طرق يعاني من يقبع في أستوديو التسلط والكذب من وحشة بكاء داخلي ولقمة متسخة بالوجع، وليس له أن يحتج سوى على مستحقات مالية، أجور معاداته للطيبين في الساحات، يغدو ويروح ,يسهر وينهض مبكراً لكذب إضافي، يجعلنا نرثى لحاله ونشفق عليه في آن، ونسأل لما ليس حراً هذا الأستوديو؟ لما هو على هذا العذاب اليومي لم يحتج إلا على مستحقاته؟ ولما هو غارق في استفزاز جيله في ساحات الحرية وهم يدعون له بالهداية والخروج من حالة إذلال النفس لنفسها واختيار ما يستحق النضال من أجله؟.. يتساءلون ويرجون أن لا يبقى قليل من جيلهم يشير إلى السلبي ،كأن جيل الحرية يحب الشمس أن تشرق على كل وجه وان يكون لذات الجيل شرف ضوء الحرية .
وإذاً يختار الإيماني وطنه المعافى الكبير المنتصر على الزيف والضلال، ويختار القليل من ذات المستوى في العمر اعتقال العقل، امتهان الكلمة الكالحة، مغالطة الشهيد في دمه، وكأن الجيل الواقع في براثن الطمع غير قادر أن يفرح بالانتصار للثورة التي ستشكل منعطفا أخلاقياً في المقام الأول قد لا يقدر على التعايش معها من قبلوا بالارتهان وقبضوا زهيد المال على حمق كلام يفقه بعده من يتابع هذا الجيل ومفترق طرقه.
محمد اللوزي
بين جيلي الهوية والوظيفة 2349