يمكن القول بيسر وصدق: إن ذلك يعود إلى التنشئة في الصغر التي تحدد البيئة الجاذبة للاستبداد، قلت الجاذبة وليس القابلة، فالتربية التي تعيشها أمتنا تجعل من الاستبداد عملة رائجة ومقبولة ومحبذة في أحايين كثيرة، فالناس ترى في تجبر المسئول نوعا من وجاهته وشخصيته القيادية في بلادة كبلادة الشياة وغباء مثل غباء الخراف، وهو ما يسمى بالنفاق الاجتماعي، حيث تهدر الناس كرامتها بلا مبرر وبدون مقابل سوى الرضا بالاستبداد والانجذاب إليه، وهو ما يعني موت الإنسان داخل الأفراد وظهور شخص الحيوان التابع، فيتحول الإنسان المكرم إلى حيوان منحط، والحيوان خير منه، فلم نر حمارا يتحكم في حمار آخر، ولكن رأينا ونرى إنسانا يتحكم في إنسان آخر.
إن التنشئة في الصغر تحدد مصير الإنسان في الكبر، تحدده دينا ودنيا، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" وقاس عليها بعض العلماء أو يدندلانه أي يجعلانه سبهللا لا يعمل بالإسلام ولا يهتم به، ولا يتذكر أمر الدين، ولا يكترث لانتصاره من هزيمته، ناسيا قول الله تعالى: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} (13) سورة الشورى. فإقامة الدين مسألة أساسية في الحياة الدينية والدنيوية. أيها القارئ الكريم إن الدين سيأخذ بيد كل واحد منا، فيقول: يا رب هذا نصرني، ويا رب هذا خذلني، فانظر ما أنت قائل لله، وما موقفك من نصرة الدين، فاليوم دنيا وغدا آخره.
إن التربية في الصغر تلقي بتبعاتها على الإنسان في كل شئونه في مستقبل حياته وقادم أيامه، ويدخل في ذلك التنشئة على الاستبداد أو التنشئة على الحرية، وهو ما يمكن أن نأخذ ملحظا مهما له في التربية اللغوية والحياتية باعتبار اللغة فعلا وتعلما هي الوعاء لكل التصرفات الإنسانية.
تقول التربية اللغوية إن فنون اللغة ـ أي لغة ـ أربعة هي: الاستماع والتحدث والقراءة والكتابة، وتشكل في مجموعها مهارات التواصل الاجتماعي والحياتي في بقية الشئون الحياتية، فالفشل في التربية اللغوية أو القصور فيها ينعكس سلبا على كل المجالات الحياتية القريبة والبعيدة، والفردية والجماعية.
وإذا كانت التربية الأسرية والمدرسية والمجتمعية تعنى بفنون اللغة بصور متفاوتة من الاهتمام، فإنه يمكن القول بدرجة عالية من الصدق إن فني الاستماع والتحدث لا تلقى اهتماما يليق بمكانتهما وأهميتهما، هذا إذا افترضنا أن هنالك اهتمام بهما من الأساس، وهو أمر مشكوك فيه، لأن الواقع التربوي على مستوى الأسرة والمدرسة والمجتمع لا يوليانهما اهتماما جادا بل يتركان الصغير وما تلقف منهما هكذا تلقائيا بصورة عفوية.
إننا لا نهتم بمهارات التواصل اللغوي والاجتماعي وهي المهارات الأساسية للحياة السوية اجتماعيا وحياتيا، وسأعرج هنا على فن الاستماع الذي هو فن التلقي الأول، وهو فن لا يتم التدرب على مهاراته بصورة النمو السوي النافع وليس النمو العشوائي؛ الذي لا ينمي العقل الناقد ولا يربيه، وإنما يبرز العقل الانفعالي ـ ونسميه عقلا مجازا ـ حيث تأتي استجاباتنا انفعالية أو ردة فعل، ومثل هكذا تواصل لا يبني روحا محاورة، ولا عقلية ناقدة، ولا شخصية مبدعة أو ذات مبتكرة.
إن الاستماع هو مهارة المهارات الحياتية والاجتماعية، فكم يحظى بالاهتمام هذا الفن من فنون الاتصال، باعتباره الفن الحياتي واللغوي والاجتماعي والتعليمي الأول والأهم وهو نقطة الارتكاز لبقية الفنون اللغوية في الحالة السوية.
إن فن الاستماع لا يتم تعليمه، بل قد يتعجب بعض الناس من الدعوة إلى تعليم فن الاستماع باعتبار أن الإنسان يسمع ما يدور حوله هكذا بدون جهد ولا تكلف، وبالتالي لا يحتاج إلى تعليم أو تدريب أو مران أو ممارسة لتربيته اللغوية حالا فحالا حتى تصل إلى أقصى ما تستطيعه من الإتقان والكمال.
إن اعتبار الاستماع مهارة ملقاة على قارعة الطريق يكتسبها الشخص دون أي جهد يذكر، جعل بيننا وبين هذا الفن اللغوي الأساسي قطيعة أسرية ومدرسية ومجتمعية وبرلمانية وحضارية، فنحن لا نستمع لبعضنا بعضا، وحتى ما نسميه ـ مجازا ـ استماعا هو نوع من الصراع فكل واحد يستمع يتمترس حول قناعاته ليرد على المتكلم، حتى تحولت الحياة إلى رسم كاريكاتوري يظهر فيه آلاف المتحدثين على المسرح يحاضرون مستمعا واحدا، فلا هو يستوعب ما يقولونه، ولا هم يدرون ما لديه، وهذه القطيعة الأساسية مع فن الاستماع حولت الحياة إلى سلطوية بائسة تتبارى فيها قدراتنا في الاستبداد في ظهورها واستبدادها بالحياة والأحياء، فالأب يرى أن الأبوة في إحكام القبضة على الأسرة، وليس في الاستماع إلى أعضائها، والزوج يرى الزوجية المثالية تكمن في فرض السيطرة على زوجته وتغليب رأيه، وعدم الإقرار لها بفضلها وجهدها حتى قال قائلهم: هن ولا تقروا لهن، يعني هن الحياة وما فيها ولا تقروا لهن بذلك فيغتررن بذلك، والزوجة ترى حب زوجها لها في أن يصبح خاتما في يدها أو لعبة تحركها كيف تشاء، وليس في هذه العينة من الأمثلة مبالغة أو خيال خصب في ربطها بالفشل في فن الاستماع، وذلك أن الاستبداد بالرأي وعدم قبول الفكرة المغايرة أساسه الفشل في فن الاستماع، وقد أكد القرآن الكريم ذلك، قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (26) سورة فصلت. فقد رأوا أن بقاء استبدادهم بالعباد واستعبادهم لهم ومصادرة حقوقهم يقوم على أساس القطيعة التامة "لا تسمعوا" أو المشوشة "والغوا فيه" بين الناس وبين فن الاستماع.
إن فشل التربية بمستوياتها المتعددة الأسرية والمدرسية والاجتماعية والحزبية في فن الاستماع جعلت علاقتنا مع هذا الفن علاقة خطية، ذات اتجاه واحد، وليس اتجاهين أخذا وعطاء وإلقاء وتلقيا كما هو شأن الصورة السوية في التواصل اللغوي والاجتماعي والحياتي، وهكذا وجدت البيئة الحاضنة للاستبداد المولدة للاستعباد، وهو ما أدركه الفاشلون في احتبار الحياة الدنيا بقولهم: {لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير}
أن الفشل الذريع في الحياة الموصل لصاحبه إلى النار كان سببه الفشل في الاستماع، قال الله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (10) سورة الملك.
إن الطريق إلى الحياة الشوروية الخالية من الاستبداد في الحياة بإقامة الديمقراطية الشوروية في حياة الأمة والمجتمع والمدرسة والأسرة يقوم ابتداء على إتقان مهارات فن الاستماع، وهي تلك المهارات التي يستحق أصحابها البشرى قال الله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (18) سورة الزمر. وإننا نحتاج إلى جهد تربوي وتعليمي كبير حتى نصل إلى امتلاك هذه القدرة اللغوية المهمة والأساسية التفريق بين الصواب والأصوب والحسن والأحسن. وعندما نتملك ذلك نكون قد أحرزنا البيئة المنبتة للحياة الكريمة والحاضنة لها والمتقبلة لتنوعنا والمستفيدة منه، حيث تتحول الأذن إلى مصفاة بداخلها معمل ضخم يميز الأفكار ويصنفها ويعرف ما يختار منها تحت قاعدة البقاء للأحسن.
إن القرآن الكريم أولى فن الاستماع اهتماما نوعيا تجلى في كثرة الحديث عنه، وتقديم السمع على البصر في آيات كثيرة من القرآن الكريم، ويصل ذلك الاهتمام إلى اعتبار الاستماع والإنصات للقرآن الكريم طريقا إلى نيل رحمة الله تعالى التي هي غاية الغايات وأمنية الأمنيات وهدف الأهداف، قال الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (204) سورة الأعراف.
فهل أدركنا لماذا نشأ الاستبداد في بلادنا ونمى وترعرع وقوي واشتد عوده؟ لأن المستبد تعود أن يتكلم فقط، ويخطب طوال الوقت، ويتحدث على مدار الساعة، ولم يتعود أن يستمع، تعود أن الاتصال الحياتي طريق ذو اتجاه واحد يقول فيستمعه الناس ويأمر فيطيعونه، وزين له ذلك علماء السوء من تنابلة السلطان، ومرتزقة العلم الشرعي من علماء السلطة الذثين يبيعون أنفسهم بعرض من الدنيا قليل، ونسوا ما أخذ الله عليهم من العهد، وألقوا كتاب الله وراءهم ظهريا.
ولم يستمع الرئيس للشعب يوما إلا إذا هتفوا له، فتصور نفسه في مقام ليس لأحد عليه حق، ولم يدرك أن الاتصال في الحياة طريق ذو اتجاهين، وبدون ذلك تزدحم الحياة وتقوم الثورات في البيت الصغير المتمثل في لأسرة الواحدة أو في العائلة الكبيرة المتمثلة في الوطن اليمني العظيم.
وهل أدركنا لماذا لم يستطع الرئيس أن يستمع لأصوات الشعب هاتفة بسقوط ونظامه بالملايين؟ ولماذا لم يتقبل الاستماع لهم أصلا؟ وإنما كان يخاطبهم طوال الوقت، ويرى لنفسه على الشعب حقا وكأننا عبيد له أو أدوات يملكها يخترق الدستور ليل نهار ويسمعنا مع ذلك ليل نهار ما يسمى بالشرعية الدستورية، برغم علمه كيف حصل عليها، وأن صلاحيتها انتهت بسقوط أول قطرة دم لأول شهيد سقط بعد توليه فترة رئاسته، ولم يلتفت الرئيس للملايين في الساحات في استبداد ضاق الشعب به فخرجوا يفترشون الإسفلت لأربعة أشهر في ملحمة أسطورية لشعب اليمن العظيم، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
د. محمد عبدالله الحاوري
لماذا يسود الاستبداد في بلداننا؟ 2166