لم يحسن الحكام يوماً الظن بشعوبهم وإنما عاملوهم معاملة اليهود غيرهم بالتقية والمهادنة والمخادعة والمكر والبطش والتنكيل... تعاملوا مع الشعوب بكل سوء ظن وتربص ...معاملة العدو اللدود لألد أعدائه ...لم يضمروا يوماً خيراً لأوطانهم ولم يهتموا لأمرها بقدر اهتمامهم بتثبيت مناصبهم وتخليد كراسيهم وتوريث عروشهم لأبنائهم وذويهم ..جعلوا الأوطان ميادين استثمار يحصدون خيراتها ويجنون ريع أرباحها ويستنزفون ثرواتها ويستغلون جهد أبناءها وكدهم وتعبهم لصالحهم لا لصالح من يتعبون .. جعلوا الشعوب آخر الأشياء التي يمكن التفكير فيها وفيما يحتاج أبنائها وركنوها في سلة مهملات ذاكرتهم ورموها في مزبلة عقولهم المتعفنة التي لا تنتج إلا سلالات بكتيريا الهلاك والفناء ..لم يحسنوا الظن في شعوبهم لأنهم لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل .
ينتسبون للشعوب لغةً وجنسية وجسداً ولكنهم لا ينتسبون إليها ولاءً وانتماءً وروحاً ...فالولاء للسادة فيما وراء البحار والانتماء يتبع الهوى الذي لا يمكن أن يكون لوطن وشعب يستبيحونه أرضاً وثروةً وإنساناً يرون أنفسهم فوق مواطنيهم حتى وإن صعدوا على أكتافهم أو ظهروا من أوساطهم ..يظنون أنفسهم من معدن مختلف مميز ويمتلكون مواصفات لا يمتلكها الآخرين حتى ولو كانت في حقيقتها الغباء والجهل, ويرون أن لديهم قدرات خارقة غير جميع الناس ورغبات تتعدى مراحل الجشع المستفحل تحتاج إلى الإشباع المستمر الذي لا يصل إلى نهاية رغم كل النهب والفساد المنتشر ...ينظرون إلى مواطنيهم من علو التكبر والتأفف والتقزز لأنهم في رأيهم ليسوا إلا مجرد بشر وجدوا لخدمتهم وإسعادهم هذا في أحسن الحالات وأرقاها وإلا فإنهم في نظرهم الطبيعي مجرد عبيد يجب أن يخضعوا للطاعة العمياء لا يناقشون ولا يسألون ولا يحلمون ..عليهم أن يرضوا بما يلقى إليهم وليس الرضا فحسب بل عليهم أن يلهجوا حمداً وشكراً وثناءً لهؤلاء الذين يمنحونهم بعض الخيرات والهبات في لحظات الرضا وفي مقابل ذلك مطلوب الكثير من الالتزامات والتنازلات والو لاءات المطلقة التي تتجاوز أحياناً مرحلة الكرامة وتتعدى التجرد عن الإنسانية ..أليست هذه هي الحقائق التي تتجلى وتظهر وتبرز وتبينها الأحداث وتظهرها الاختلافات وتكشف عن سوأتها مطالب الشعوب التي تواجه بكل عنفوان القمع والترهيب والاغتيال؟
أخيراً قررت الشعوب الخروج على هذا الوضع المزري والمتردي والسيئ لأنها أدركت أنه لا مجال ولا بديل يمكن أن يصل بها مرحلة الخلاص من هذا الاستبداد الطويل والمتحكم والمورث رغم إدراكها أنها ستدفع فاتورة باهظة الثمن ,ولكنها قبلت أن تدفع هذا الثمن رغم ارتفاع كلفته غير عابئة بشيء ..وهي اليوم تدفع فاتورة الخلاص من ليبيا إلى سوريا إلى اليمن التي تشابهت فيها الأنظمة وتقاربت إلى درجة التوأمة في طرق التعامل مع الشعوب وأساليب الحكم والقائمين عليه وإن شذت بعض الأنظمة عن البقية التي تهلك الحرث والنسل وتحرق الأرض والإنسان وتقتل خيرة الشباب بأصناف الأسلحة وتتفنن بالحرق والقتل والتدمير كمصر وتونس فإنهما فقط خانتهما الظروف عن ممارسة متعة القتل والتنكيل عندما كانت مؤسسة الجيش بعيدة عن متناول الأبناء والإخوان الذين تجهز لهم خلاصة الجيوش التي لا يتعدى ولاءها وعقيدتها العسكرية حماية الكرسي والنظام وفي سبيله يبيدون الشعوب ..وهذه التجربة يفترض أن تعمم مستقبلاً أساسي من مادة التاريخ يتم دراسته وتدريسه حتى تتجنب الشعوب الهلاك بأيدي جلاوزة وحراس الأنظمة أو ما يسمى بمعسكرات الحرس الجمهوري عفواً الحرس الملكي أو حرس الكرسي في حال فسدت الأنظمة وتجاوزت حدودها وأوغلت في ممارسة الظلم وفرض الإرادة بقوة السلاح.
علي الربيعي
كيف يستبيح الحكام الشعوب؟ 1787