يعيش الإنسان أحياناً أسيراً لكذبة كبيرة صنعها بيده في لحظة غفلة عابرة صورت له الدنيا بلون جديد لم يألفه من قبل، فتراقصت أمام عينيه الأمنيات وحملته الأحلام على بساطها السحري إلى عالم آخر.. لكن سرعان ما تهب الرياح لتحمل في طريقها جزءاً من الحقيقة كاملة، وهنا يعود الوعي بالواقع ويسري قرار العبور في شرايين الجسد وتنتصب إرادة الصمود من جديد ويعيش الإنسان تفاصيل حياته خارج أسوار ماضيه باحثاً عن كذبة أخرى يعيشها بإراداته هو دون أن يدفعه الآخرون إلى شراكها!.
الحياة سوق كبير يبيع الرخيص والثمين ويشتري أيام الناس التي لا تعدلها أموال العالم.. وفي هذا السوق سواء من باع أو أشترى، سواء من ربح أو خسر لأن بضاعة الحياة معطبة وسوقها كاسد، لكن ذلك السيل من الهوى والأماني والرغبات المستعرة يجعلنا نرى حجارة سوقها مجوهرات وترابها مسك وحصاها عقيقاً خالصاً.. ولهذا نكذب الواقع ونركن إلى السوق الذي تعج محالة بالمتسوقين والفضوليين وأرباب الحرف الساقطة! لكن لماذا نعيش جميعاً في ظل كذبة الحياة، قانعين بمتاعها، غير آبهين بثرثرة الوقت حولنا؟! ربما لأنها الكذبة الوحيدة التي نعيش بداخلها متساوين في حجم الغفلة دون أن يكون أحدنا طعماً للآخر، بعضنا يكذب ويصدق نفسه ولهذا نعيش في منطقة تأثير، بين واقع مر وخيال ليس بأقل مرارة، لكنه يقتنع تماماً أن ما يفعله هو الصواب.
ولعل ذلك يمنعه بطريقة أو بأخرى من استجواب الآخرين واكتشاف على أنه أصدق الناس متأثراً بسريالية الموت والحياة، متخطياً عقبة الذات الآمرة إلى أنها ناهية.. بعضنا أيضاً يكذب ليعيش منظراً لنفسه سياسة قبيحة سمتها: لكنني لا أعيش لأكذب! والأمر في النهاية لا يتعدى محطتين في رحلة قطار واحد، لكن ما من شيء أكثر مرارة من كذبة حب عشنا تفاصيلها كعشاق مخضرمين ثم أكشفنا فجأة أن ذلك الشعور اللذيذ لم يكن حباً أبداً وأن ذلك التواؤم الكبير بيننا وبين من أحببنا كان هو الاختلاف الوحيد الذي فرقنا من جديد.
ولأن الحب لا يستطيع أن يفرق بين الواقع والخيال ولا يقدر أن يكتشف الحقيقة من الكذب فإنه سرعان ما يتحول إلى مرآة تقرأ أصحابها بوضوح مهما بدت ملامحهم غامضة.. وتبقى قدرتنا على النسيان هي الدواء الوحيد الذي يرمم شقوق الذاكرة ويعيد إليها شباب الإحساس وصبا الشعور.
وبالرغم من موجه التصابي التي تصيب مشاعرنا أحياناً لتغمر قلوبنا بمراهقة متأخرة ونزوة عابرة إلا أن تلك الكلمات التي سحرت أعيننا وكل جوارحنا لا تزول بانتهاء النزوات وعودة العقل المدرك إلى معقله القصي في ذاكرة الشغف! يكذب الإنسان حين يحب ويكذب حين يكره وفي كل مرة يستخدم مشاعره المطلقة في تنسيق لعبة الكذب ابتداءً بشفاه، متهمة بالفضول وانتهاءً بحلبة ليس على ساحتها حكم، ومهما ظهرت ألفاظه خالية من العفة أو عارية من الستر إلا أنه يرفع يده منتصراً في نهاية المطاف وهو يعلم تماماً أن الزاوية خالية إلا منه، حين تنتهي الحروب ويقع الناس أسرى لكذب الدول والحكومات بعد أن عاشوا أسرى لكذبة الرخاء قبل أن ينادوا بحرية الفكر والرغبة في التغيير.
نحن نعيش كحلقة في سلسلة من الأكاذيب تبدأ من داخلنا وتنتهي أيضاً بالعودة إلى الداخل..ولن يكف العالم عن الكذب لأنه مصنف كضرورة في سياسات وقوانين وشرائح وأحكام وحتى أحاسيس ومشاعر كاذبة، ولهذا فإن المشكلة تكمن في التصنيف وليس في الإنتاج، غير أن العقل الواعي بحقيقة الكذب يستطيع أن يميز بين إمكانية الموت وضرورة الحياة على نسق الديناميكية المفروضة للوجود البشري وفق الإرادة المعلنة كوسيلة مشروعة لا كغاية مبررة، لكن يبقى سؤال: لماذا يسير الكذب مع الفقر سوياً في طريق واحد؟ وهل الكذب رذيلة مزدهرة أم فضيلة نامية؟!.
??
ألطاف الأهدل
الكذب.. الفضيلة النامية! 2228