معروف أن حماية المدنيين في أي بؤر توتر أو صراع أو حرب، هي منطلق إنساني وأخلاقي. ولعل الثورة الشعبية في ليبيا التي بدأت سلمية وسارت على النهج السلمي، واجهها النظام الليبي بعنف، واستخدم الطائرات والدبابات والمدرعات لسحقها، وجدت نفسها في مواجهة وضع لا تقوى على مواجهته، وحاولت الدفاع عن نفسها معتمدة على قدرة البعض من أفرادها على استخدام الأسلحة الخفيفة، وعلى بعض أفراد القوات العسكرية الذين انشقوا عن النظام وانضموا إلى صفوفها.
ورغم ذلك فإن القوة العسكرية الباطشة للنظام كانت أكثر عدة وعتاداً، وكانت تعتمد على القصف الجوي والبحري والبري مستخدمة الطائرات والدبابات والبوارج، وبدا واضحاً أن لها الغلبة على الساحة، وأخذت تضرب بقوة المدن والقرى، لبسط هيمنتها على الأرض، والقضاء على الثورة الشعبية، وازداد عدد الضحايا الذين يسقطون بسبب هذه الحرب التي شنها النظام على الثورة الشعبية التي اضطرت تحت وابل القذائف المدفعية والصاروخية والقصف الجوي أن تطلب المساعدة لفرض حظر جوي على ليبيا لكبح جماح القوة الجوية للنظام وحماية المدنيين.
واتخذت الجامعة العربية قراراً بالأغلبية يطلب من الأمم المتحدة فرض حظر جوي وحماية المدنيين، ووافق مجلس الأمن بالأغلبية على ذلك، وبدأت فعلاً عمليات فرض الحظر الجوي بعد أن كاد النظام الليبي يطبق على الثورة الشعبية ويجهز عليها، حتى لو أدى ذلك إلى حرق المدن وقتل المدنيين.
غير أن هناك مَنْ يطرح تساؤلاً كبيراً عن مدى مصداقية الدول الكبرى بالنسبة لحماية المدنيين، وهي دول لها سجل حافل بانتهاكات حقوق المدنيين، وقتل الأبرياء في الدول التي تدعي مساعدتها. ومشهد الغزو الأمريكي للعراق واحتلاله وتدمير مؤسساته وقتل المدنيين، أو ما خلفه الاحتلال من ملايين الضحايا والمهجرين والمشردين، هو دليل قوي على عدم المصداقية، ناهيك عن مشاهد مروعة في فلسطين التي يستبيح فيها الكيان الصهيوني البشر بأحدث الأسلحة الفتاكة التي تمده بها الولايات المتحدة، بل تمده أيضاً بالسند السياسي وتغطي جرائمه ضد المدنيين أو تغض الطرف عنها؛ وتذهب أبعد من ذلك إلى النأي به عن أي مساءلة أو إدانة على جرائمه ضد المدنيين.
وهذا التساؤل مشروع وفي محله، ولكن يجب التأكيد على أن السياسة تخضع في المقام الأول لاعتبارات المصالح الاستراتيجية والحيوية. وكان للولايات المتحدة الأمريكية أهداف استراتيجية وحيوية في العراق، كما أنه لا يغيب عن البال حلفها الاستراتيجي والعضوي مع الكيان الصهيوني.
ولذلك، فإن مسألة حماية المدنيين بهدف إنساني بحت تبدو خارج السياق، حيث تطغى المصالح الاستراتيجية والحيوية، أو التحالف الاستراتيجي والعضوي. والوضع الليبي لن تقدم فيه الاعتبارات الإنسانية على اعتبارات المصالح الاستراتيجية والحيوية.
ولكن المفارقة اللافتة للنظر أن الوضع الليبي ربما تقاطعت فيه رغبات الثورة الشعبية وأنصارها مع رغبات عربية ومع رغبات دول كبرى، ووفق هذا التقاطع، فإن الثورة الشعبية كانت في أمس الحاجة إلى جهة قادرة على فرض حظر جوي يحقق الحماية لها وللمدنيين، وذلك بكبح جماح القوة الجوية للنظام الليبي. وقد وجدت نفسها مضطرة ومكرهة على ذلك. والنظام العربي متشرذم ولا يملك الآلية المؤسسية التي تمكنه من القيام بهذا الدور.
وهكذا بدت الاستعانة بدول كبرى ضرورة قهرية لمواجهة وضع قاهر، وإن جاءت الاستعانة بها غير مباشرة من خلال الأمم المتحدة؛ ولكن من المعروف أن دولاً كبرى آل إليها تنفيذ هذه المهمة. ولا بد في السياق السياسي أن يسلط الضوء على الاعتبار الإنساني الذي يبدو مبرراً مشروعاً وهو حماية المدنيين.
وبديهي، أن الولايات المتحدة والدول الغربية لا تقدم خدمات مجانية لاعتبارات إنسانية. وفي عالم المصالح الاستراتيجية والحيوية التي تحكم السياسة لا مجال للاعتبارات الإنسانية، وإن كان التغني بها كمظهر حضاري أمرا مألوفاً، إلا أنها تقاطعت مع اعتبارات المصالح.
أسامة عبد الرحمن
المصالح الاستراتيجية والاعتبارات الإنسانية 2022