"يوم من الدهر لم تصنع أشعته ** شمس الضحى بل صنعناه بأيدينا"
بهذا البيت الرائع لأبي الأحرار/ الزبيري أستهل مقالتي هذه، وأنا في رحاب شمس الوحدة، ورونقها الباهي، ومستقبلها المشرق، وهي تزدان فرحاً بتحررها من حضور النظام الطاغي والحكم الباغي، وترفل في مجدها العتيد وثوبها المجيد وعيدها السعيد، عيد الوحدة الثاني والعشرين من مايو.
إن مظاهر حب الوطن تتجلى في نواحي عدة، ومظاهر عديدة، وألوان كثيرة من الأفعال، وضروب متعددة من الأعمال، ذلك أن الوطن مسقط الرأس، ومهد الطفولة، وملعب الصبا، ومضمار الشباب، وموئل الرجولة، ومنـزل الأحبة، وميدان الذكريات، ومجال الحياة الوسيع.
ورحم الله الشاعر العربي وهو يقول:
ولي وطن آلــــيت ألا أبيعـــه ×× وألا أرى غيري له الدهــر مالـكا
عهدت به شرخ الشباب ونعمه ×× كنعمة قوم أصبحوا في ظــلالـكا
وقد ألفتــه الــنفس حـــتى كأنه ×× لها جسد إن غاب غودرت هالكا
وحبب أوطان الرجال إلـــيهـم ×× مآرب قضاها الشــــباب هنالــكا
إذا ذكروا أوطانــهم ذكرتهـــم ×× عهود الصبا فيها فحـــــنوا لذالكا
لقد رضعنا حبه مع حليب الأمهات، ونشأنا بحبه في مواطن الدرس، وأماكن العمل، وأوقات الجد والهزل، له علينا حق أن نحميه، وأن نذود عنه، وأن نعلي من شأنه، وأن نرفع من قدره؛ لأن في ذلك رفعة لنا، فعزة الأوطان من عزة أبنائها.
يقول الشاعر الشابي:
لا يرتقي شعب إلى أوج العلا ×× ما لم يكن بانوه من أبنائه
إن اليمن شخصية حضارية سامقة بين حضارات الإنسانية، وهي حضارة امتدت عبر حقب الزمان، وتوالي العصور، وخلدها القرآن الكريم في آيات الذكر الحكيم، قال الله تعالى: {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} (23) سورة النمل وقال الله تعالى عن اليمن: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ } (15) سورة سبأ.
إن لليمن أمجاداً، تجعل المنتسب إلى اليمن يشعر بالتاريخ العريق، والماضي التليد، والحضارة الضاربة في تاريخ البشرية، وجذور الإنسانية جيلاً بعد جيل، يقول الشاعر إلياس فرحات:
موطنُ الإِنسانِ أمٌ فإِذا ×× عقَّهُ الإِنسانُ يوماً عقَّ أمَّه
هذه الشخصية الحضارية الجميلة تدعو كل يمني أن يقوم بواجبه في حسن السفارة عنها، باعتبار كل يميني سفير عن اليمن، يبرز محاسنها، ويظهر جمالها، ويعلي من قدرها، ويجتهد في حفظها، والحفاظ عليها، وكل يمني يعد أنموذجاً حياً لكل اليمينين، ويعد ناطقاً فعلياً بأخلاقهم وحضارتهم، وفاء بالدين الذي في ذمته لليمن، يقول أمير الشعراء أحمد شوقي:
وللأوطان في دم كل حر ×× يد سلفت ودَيْنٌ مستحق
إن اليمن تسير اليوم بشبابها الثائر نحو الغد بخطى حثيثة، تتسارع في سيمفونية راقية، حيث يخوض الشباب بصمودهم ملحمة أسطورية، تتجلى فيها أصالة الشعب اليمني العظيم، وهذه بعض ملامحها:
إن اليمن تجدد شبابها بشبابها إنه تجديد لكل مآثر اليمن، تقول الحياة في كتاب تاريخ الشعوب: إن الذين يمتلكون رؤية للبناء، يصبرون على تكاليف الوصول إليه، إنهم في ساحة التغيير يبنون صرح المستقبل طوبة طوبة، ويرفعون بناء اليمن سامقاً يطاول عنان السماء خطوة خطوة، ويجودون في سبيل ذلك بالأرواح، والجود بالروح أقصى غاية الجود، وهم يدركون أن الأهداف العظيمة لها تكاليفها، ويمتلكون الشجاعة والبسالة، لتحمل فاتورة التكاليف الباهظة لأجل يمن تسود فيه العدالة الاجتماعية والمواطنة المتساوية، فهم ينشدون تحقيق الدولة المدنية الحديثة، وسيادة القانون، والحياة الكريمة.
وتقول الحياة –أيضاً- إن الذين لا يمتلكون مشروعاً للبناء يتجهون بجهودهم نحو الهدم، وعلى رأي الثعلب الذي فاته الوصول إلى العنب، فقال: إنه حامض.
أما الذين يمتلكون مشروعاً حضارياً بانياً يديرون به حياتهم، ويقدمونه لوطنهم، فإنهم يمثلون الأم الحقيقية لليمن، والأم الحقيقية تحتضن كل أبنائها وترفض العنف، وتستقبل الرصاص بصدور عارية، وتواجه الموت والابتسامة على الشفاة، وحتى لو قسى عليها الدهر بمحاولة ادعاء الزائفين بأنهم الأم الحقيقية ورضوا بتقسيم الوطن وتشتيت أهله وإعمال سكين القتل في جسد أبنائه الأحرار، فإن الأم الحقيقية لا تقبل أن يقتل أحد أبنائها.
لقد مثلت ثورة الشباب تلك الأم التي درسنا قصتها صغاراً، حين ادعت امرأتان أن كلاً منهما أم الطفل فقال القاضي: إنه سيقسمه بالسكين بينهما نصفين، فقبلت الأم الزائفة أن تسلط آلة القتل في الجسد الطاهر، ورفضت الأم الحقيقية وصرخت: بل هو ابنها لا تقسموه بالسكين، فعرف القاضي أنها الأم الحقيقية، فالأم الحقيقية لا تقبل أن تعمل السكين لكي يمزق أشلاءه.
إن الشباب يتحدثون عن المستقبل، في حين يعيش خصومهم في الماضي، ويقدم الشباب صورة راقية لشعب عظيم، صورة تليق باليمن واليمنيين بخلاف ما يحاول خصومهم أن يصموا الشعب اليمني به من التخلف والجهل والاحتراب، ويرسم الثوار لوحة اليمن الجديد، متشبعة حد الارتواء والبهاء بمعاني المدنية والتحضر، في حين يشوه خصومهم وجه اليمن واسم اليمن، والذي يشاهد الإعلام الرسمي أو يقرأ مطبوعاته، يدرك معنى التلوث، فهم تجسيده الحقيقي، فالتلوث البصري والسمعي والذوقي والفكري لو تجسد، لتمثل في صورة الإعلام اليمني الرسمي.
إن الشباب الثائر يعزفون سيمفونية يمنية وطنية، استقطبت إعجاب العالم باليمن واليمنيين، وأشاد بها كل المحللين السياسيين والإعلاميين في العالم، فهي تقدم اليمن عروساً في أزهى صورة حضارية، تمثل بصدق حضارة اليمن العظيم، في حين يقدم خصومهم اليمن ـ لوسائل الإعلام الدولية ـ على أنه حضاري في زمن قديم، ويؤكدون أن ذلك بعكس اليمن اليوم، فهو بحسب رأيهم قبلي ومقتتل، وهي الصورة التي علقت بأذهان العالم عن اليمن ـ البلدة الطيبة ـ بأنها مأوى للإرهاب، والقاعدة، والانفصال، فقام الشباب الحر بغسل هذه الصورة الزائفة، فظهر بمجهودهم بريق الصورة اليمنية الذي يخطف بهاؤه الأبصار إعجاباً واحتراماً وتقديراً.
إن العالم يعيد اكتشاف اليمن، اليمن الأصيل والحضاري، والمدني، إن ما يقدمه الشباب اليوم فعلاً تاريخياً متميزاً له أثره وتأثيره، فثورة الشباب مدرسة متكاملة بحسب تعبير المفكر العربي الكبير/ عزمي بشارة.
إن حب اليمن وعشق الوطن والولاء للشعب اليمني العظيم والانتماء الصادق لهذه الأرض وتاريخها المجيد، هو الذي أخرج هذه الثورة الشبابية الشعبية المباركة، والتي تضم اليمن كل اليمن، إن هذه الساحات والميادين هي التجسيد الحقيقي لحب اليمن، فمن أجل اليمن ينام هؤلاء المعتصمون على الإسفلت وهم من يمتلكون البيوت والمأوى، ومن أجل اليمن يعتصمون في الساحات والميادين، ومن أجل اليمن نصبوا الخيام، ومن أجل اليمن قدموا التضحيات الجسام، ومن أجل اليمن يتلقون الرصاص الحي من القناصة القتلة بالصدور العارية، وهم يهتفون سلمية سلمية، والموت يحصد الأرواح البريئة، فيصبرون لأجل اليمن ولا ينجرون إلى دائرة الدم ومربع العنف الذي يحاول النظام جاهداً جرجرتهم إليه.
إننا نقول للدنيا بأكملها وللعالم بأجمعه وبصوت مرفوع: إن حبنا لليمن مشفوع بالبرهان، ومصحوب ببذل الدماء، وهؤلاء المعتصمون الأحرار شباباً، وشيوخاً، ونساءً، وأطفالاً، يستشعرون معاني الوطنية الحقيقية في التضحية بالنفس والنفيس لأجل أبناء اليمن.
أيها العالم صدقوا أعينكم التي ترى شباب اليمن في الساحة، يفرحون بعيد الوحدة، وبثورتهم الشعبية السلمية، فإن أعينكم لا تحتاج إلى نظارات من أي نوع كي ترى اليمن السعيد في أصالته الرائعة يحتفل بوحدته ويقدم نفسه للعالم بناة للسلام.
د. محمد عبدالله الحاوري
الوحدة حُبنا الكبير 2361