قدمت دول الخليج نفسها كمنقذ مفترض لليمن. وعلى مدى شهر ونيف من المحاولة بدا وكأنها تواجه مسارات معقدة أكثر من اللازم. وحتى الآن عقد مجلسها قرابة ستة لقاءات استثنائية لوزراء خارجيتها، أفضت إلى أربع مبادرات، ظلت تتطور تباعاً، حتى بلغت صيغتها الأخيرة، التي ما زالت هي الأخرى مثار جدل وتجاذب مواقف ثلاثة أطراف يمنية هي: النظام الحاكم، والمعارضة، وشباب الثورة السلمية.
مبررات التدخل الخليجي
بعد ما يقارب الشهرين على البدايات الأولى لانطلاق الثورة السلمية في اليمن، المنادية بإسقاط نظام الرئيس علي عبد الله صالح، بدأت دول مجلس التعاون الخليجي -وبشكل جماعي– باتخاذ قرار حاسم بالانتقال من دور المراقب السلبي للأوضاع اليمنية المتصاعدة إلى التدخل المباشر وممارسة دورها المفترض في إنقاذ البلاد والنأي بها من الدخول في حرب أهلية وشيكة.
قرار التدخل الخليجي في الشأن اليمني جاء متأخراً، مع أن مبرراته الجيوسياسية ظلت متوفرة منذ البداية، لعل أبرزها الموقع الإستراتيجي الهام والمؤثر على تلك الدول والمنطقة
قرار التدخل هذا، يعتقد البعض بأنه جاء متأخرا، مع أن مبرراته الجيوسياسية ظلت متوفرة منذ البداية، لعل أبرزها الموقع الإستراتيجي الهام والمؤثر على تلك الدول والمنطقة.
غير أن البعض يعزو تأخره إلى التخوف من رفض وتجريم فكرة التدخل المباشر في الشأن الداخلي لدولة أخرى. ولذلك كان من الواضح أن هذا التدخل جاء بعد أن كسر الرئيس "صالح" حاجز الخوف هذا حين طلب من الملك السعودي التدخل لإنقاذ اليمن من "حرب أهلية مدمرة من شأنها أن تهدد المملكة والمنطقة برمتها". هذا ما كشف عنه في وقت لاحق.
بالنسبة للعاهل السعودي عبد الله لجأ هو الآخر إلى فكرة إشراك مجلس التعاون في الحل. وربما ترافق ذلك مع اعتقاد شبه مؤكد بوجود توجه خارجي (أميركي أوروبي) لتحميل المملكة ومعها دول الخليج ملف الأحداث الأخيرة في اليمن.
مسار المبادرات الأربع
في الثالث من أبريل/نيسان الماضي عقد المجلس الوزاري لدول الخليج دورته الاستثنائية الحادية والثلاثين، التي خصصت لإجراء اتصالات مع الحكومة والمعارضة اليمنية لعرض المبادرة الخليجية (الأولى).
وفي 7 أبريل/نيسان كشف رئيس الوزراء القطري خلال مؤتمر صحفي عقد على هامش زيارته إلى واشنطن "أن دول الخليج تأمل في إبرام اتفاق مع الرئيس صالح كي يتنحى". أثارت تلك التصريحات حفيظة السلطة. وفي اليوم التالي (الجمعة) هاجم "صالح" قطر وتصريحات رئيس وزرائها.
كانت تلك المبادرة مكونة من بندين فقط. البند الأول: "أن يعلن الرئيس علي عبد الله صالح التنحي عن السلطة وتسليم صلاحياته إلى نائبه". والبند الثاني: "تشكيل حكومة وحدة وطنية بقيادة المعارضة".
أعلن صالح رفضه لها، متذرعا بتصريحات المسؤول القطري، لتدخل المبادرة مشرحة التعديل. يوم الأحد 10 أبريل/نيسان عقد وزراء خارجية مجلس التعاون اجتماعا استثنائيا لتدارس الأمر. أفضى الاجتماع إلى ما عرف لاحقاً بـ"المبادرة الثانية". حولت المبادرة الجديدة البند الأول إلى النص التالي "يعلن رئيس الجمهورية اليمنية نقل صلاحياته إلى نائبه".
في 17 أبريل/نيسان سافرت المعارضة إلى الرياض لمناقشة الأمر مع المجلس الوزاري الخليجي. وبعد الانتهاء، خرجت المعارضة لتعلن تمسكها بمبادرة الثالث من أبريل/نيسان الداعية لـ"تنحي" صالح عن الرئاسة بشكل صريح. وفي 19 أبريل/نيسان عقد المجلس الوزاري لقاءً مع وفد السلطة في أبو ظبي. صدر بيان رسمي يعلن مواصلة المجلس جهوده. ومن اللقاءين صاغ المجلس مبادرته الجديدة.
وفي 21 أبريل/نيسان وصل الأمين العام للمجلس عبد اللطيف الزياني إلى صنعاء لتسليم السلطة والمعارضة نص المبادرة الجديدة (ما عرفت بالمبادرة الثالثة) تضمنت تعديلات كثيرة شملت الخطوات التنفيذية التي أصبحت 10 بنود، بدلاً من بندين في المبادرة السابقة. ومن البنود الجوهرية التي أضيفت: "تسليم السلطة إلى النائب بعد 30 يوماً من التوقيع عليها"، في حين ألزم البند الثاني الحكومة المشكلة برئاسة المعارضة بـ"توفير الأجواء المناسبة لتحقيق الوفاق الوطني وإزالة عناصر التوتر سياسيا وأمنيا". ومنح البند الثالث "الحصانة ضد الملاحقة القانونية والقضائية للرئيس ومن عملوا معه خلال فترة حكمه".
وحين بدأت تصريحات المعارضة تكشف عن توجه رافض لها، أعلنت السلطة موافقتها وسلمت ردها رسميا في 23 أبريل/نيسان. في حين تركزت مخاوف المعارضة على تفسير البند الثاني: ".. إزالة عناصر التوتر سياسيا وأمنيا".
وحين تلقت طمأنة خليجية بعدم دخول الاعتصامات الميدانية ضمن هذا البند، أعلنت موافقتها بشكل رسمي، لكنها اشترطت أن تشكل الحكومة من الحزب الحاكم فقط، بذريعة "عدم قبولها العمل تحت قيادة الرئيس صالح". ولاحقاً في 25 أبريل/نيسان أعلنت قبولها الكلي بمبرر: "أن مسؤولين خليجيين وممثلي الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة قدموا توضيحات وضمانات".
قبل أربعة أيام من التوقيع على المبادرة الخليجية, افتعل الرئيس صالح أزمة مع دولة قطر حين اتهمها بالضلوع في "مؤامرة" وتمويل "الفوضى" في اليمن
بعد الموافقة، كان الاتفاق على التوقيع النهائي في الرياض بتاريخ الثاني من مايو/آيار الحالي. لكن، وقبل أربعة أيام من الموعد، افتعل الرئيس أزمة جديدة مع دولة قطر حين اتهمها في مقابلة مع تلفزيون "روسيا اليوم" في 28 أبريل/نيسان بالضلوع في "مؤامرة" وتمويل "الفوضى" في كل الدول العربية ومن بينها اليمن، التي قال إن أموالا قطرية تتدفق إليها لتمويل القتل والفوضى. وهدد بالتحفظ عن التوقيع –المقرر في الرياض- إذا حضر ممثلو قطر.
واليوم التالي (الجمعة) تحدث في خطبته الأسبوعية –كعادته- أمام حشد من أنصاره عن "عدم تسليم السلطة إلا وفقاً للشرعية الدستورية"، وأن يتم الالتزام بالمبادرة "كمنظومة متكاملة دون تجزيء". والسبت كررت قيادات في حزبه الأمر ذاته، ولكن بتفاصيل أكثر، أهمها "أن الرئيس لن يوقع على المبادرة بصفته رئيسا للجمهورية، وإنما كرئيس للحزب الحاكم". وهو ما يتعارض مع المبادرة التي تشترط توقيعه شخصيا.
كما تضمنت تفاصيل أخرى تحدثت عن ضرورة إزالة عناصر التوتر التي اعتبر "المعتصمون" أهمها، إلى جانب القوات العسكرية المنشقة عن الجيش، والمتمردين وقطاع الطرق والانفصاليين.. إلخ.
ومع أن المعارضة اعتبرت ذلك رفضاً صريحاً وتصعيداً جديداً، رافضة أي تعديلات إضافية، وشككت بوجود نوايا انقلابية لدى الرئيس لإصراره على عدم التوقيع بصفته الرئاسية.. فإن المبادرة عدلت لتتواكب مع هذا الشرط حين غيرت صفة توقيع الرئيس من طرف رئيسي إلى راع للاتفاق.
مواقف المعارضة والسلطة
بالجملة، يتضح أن المبادرات الخليجية الأربع السابقة تغيرت على مدى شهر ونيف لتتكيف مع رغبات الرئيس على النحو المختصر التالي: من "تنحي" صريح إلى "تسليم صلاحيات"، إلى "البقاء في السلطة شهراً" وفرض "ضمانات لتجنب الملاحقة القانونية"، وأخيراً: اعتباره "راعياً" وليس طرفا.
العامل المشترك في المبادرات الثلاث الأولى أن الرئيس كان يعلن قبوله مبدئيا ثم يلحقه بالرفض، في حين ظلت المعارضة تراوح بين الرفض الأولي لكل تغيير يشملها، ومن ثم القبول النهائي
العامل المشترك في المبادرات الثلاث الأولى أن الرئيس كان يعلن قبوله مبدئياً ثم يلحقه بالرفض، في حين ظلت المعارضة تراوح بين الرفض الأولي لكل تغيير يشملها، ومن ثم القبول النهائي بعد حصولها على ضمانات وطمأنة خليجية وخارجية. غير أن المبادرة الأخيرة (الرابعة) تبدو مثيرة للشك أكثر من غيرها بالنسبة للمعارضة. وهي حتى الآن ما زالت تتدارس عواقبها مع الأطراف الخليجية.
ومع ذلك، فليس من المستبعد القول إنها في نهاية المطاف ستوافق كما ظل ديدنها في السابق. وستبرر الأمر بحصولها على "ضمانات وتطمينات وتفسيرات خليجية وخارجية مناسبة". هذا الاستنتاج يمكن استخلاصه من تغيرات مواقفها خلال مسار المفاوضات.
فهي في الثانية أبدت إصراراً على تمسكها "بالمبادرة الأولى– 3 أبريل/نيسان"، ثم وافقت، لتقول في الثالثة إنها متمسكة بـ"الثانية– 10 أبريل/نيسان"، وهي اليوم تقول إنها متمسكة بـ"الثالثة".
قد تبدو تصريحات بعض قياداتها حاسمة هذه المرة، بدعوة دول الخليج والمجتمع الدولي إلى ممارسة المزيد من الضغط على نظام صالح، للقبول بتوقيع المبادرة بصيغتها الثالثة، كونها بحدسها تشعر بوجود خدعة ما وفقاً لتقلبات وألعاب "صالح" التي مكنته من حكم اليمن على مدى الـ33 عاماً الماضية. ناهيك عن أن المنطق المجرد هنا من وراء رفض صالح التوقيع بصفته الرئاسية، يفرض مبدأ التشكيك بقوة. كأنه يتوخى إتاحة مجال لانقلاب قادم ومناورة جديدة.
وبشكل منطقي أيضاَ يمكن التأكيد أن رجلا نقض ثلاث مبادرات الواحدة تلو الأخرى، خلال شهر واحد، دون أي مبرر منطقي، فستكون احتمالية حدوث انقلاب بذريعة التأويل وليّ النصوص التي يصر اليوم على تغييرها بتلك الطريقة المكشوفة، هي الأقرب إلى الحقيقة.
في الواقع، بالنسبة لتغيرات مواقف المعارضة على ذلك النحو، يمكن تفسيرها على أنها عمل سياسي بحت، فرضته دبلوماسية مبنية على احتمالين، الأول: أنها قبلت الدخول في المفاوضات منذ بدايتها مع علمها المسبق أن العملية أشبه بمن "يحرث في بحر"، وذلك حرصاً منها على تمثل دبلوماسية مرنة مع دول الخليج والمجتمع الدولي توخياً لعدم مواجهتها لرغبات تلك الأطراف الهامة والمؤثرة.
موافقة المعارضة اليمنية على المبادرات الخليجية كان بهدف كسب تعاطف الأطراف الإقليمية والخارجية مع مطالبها, وكذلك كسب ثقتها في تعاملاتها المستقبلية
الاحتمال الآخر، وهو بالمناسبة يأتي كنتيجة للسابق، يتعلق بإيصال دول الخليج والمجتمع الدولي المهتم إلى الحقيقة التي يعتقد أنهم يدركونها لكنهم –ربما- يتغاضون عنها لسبب ما، وهي: أن هذا النظام لا يمكن الوثوق به. ومن كلا الأمرين سيمكنها (المعارضة) من جني أهداف دبلوماسية كبرى: قصيرة، وطويلة الأجل.
أما القصيرة فتتمثل في كسب تعاطف تلك الأطراف الإقليمية والخارجية مع مطالب الشعب ودعمها في تحقيق هدفها الأكبر بـ"إسقاط النظام"، بعد أن تكون كافة السبل والمحاولات قد أفضت إلى تلك النتيجة الجوهرية.
وأما الأخرى (الطويلة الأجل) فتتمثل في كسب ثقة تلك الأطراف في ما يتعلق بتعاملاتها المستقبلية ودعم بناء اليمن الجديد وما يترتب عليها من سياسات اقتصادية وتعايشية بعد سقوط النظام الحالي.
المبادرة ومزاج الشارع
من الواضح أن بلوغ النتيجة الثانية (الطويلة الأجل) مرتبطة بتحقيق الأولى (إسقاط النظام). وعليه فمن المهم القول إن اتخاذ قرار "إسقاط النظام الحالي"، بالنسبة للمجتمعين الإقليمي والدولي، لن يكون بتلك السهولة التي تتوقعها المعارضة.
فقرار مثل هذا يندرج في إطار القرارات الإستراتيجية التي تتطلب نظرة عميقة شاملة لطبيعة ومكونات وأهداف من سيحكمون اليمن بعد "صالح". إلى جانب دراسة مستفيضة لأبعاد أخرى ترتبط بمستقبل أنظمة دول الخليج والمنطقة. ولا يستبعد تأثير التباينات بين مواقف دول الخليج البينية على النتيجة.
وعليه كان من السهولة ملاحظة تلك المرونة الكبيرة –وغير المنطقية- التي اتبعتها دول المجلس –أو بالأحرى المؤثرة منها- لمواكبة رغبات ومطالب رئيس النظام الحالي، حتى بلغت المبادرة الأخيرة.
لكن، ومع ذلك، لا يمكن مواصلة إغفال مزاج الشارع اليمني لوقت أطول من اللازم، مضافاً إليه تقلبات وانتهاكات نظام صالح. هذا يعني لزومية التخطيط لمستقبل ما بعد صالح باعتباره أمراً حتمياً سواء التزم حرفياً ببنود المبادرة أم لم يلتزم.
شباب الثورة اليمنية بكافة تكتلاتهم وائتلافاتهم المناهزة للمائة في مختلف محافظات الجمهورية، يجمعون على رفض أي مبادرة لا تلبي تطلعات ثورتهم بتنحي "صالح" ونظامه، الفوري ومحاكمتهم على جرائمهم.
إنهم يعتبرون تلك المبادرات محاولات لتحويل "ثورتهم" إلى "أزمة"، وهو أمر غير مقبول. ويدعون دول الخليج للتوقف عن إنقاذ نظام متساقط. ويزداد الأمر كلما واصل "صالح" ونظامه ارتكاب مجازر جديدة، فتراهم يحذرون –في بعض بياناتهم- دول الخليج والمعارضة من إمكانية اعتبارهم "شركاء في الجرائم التي يرتكبها النظام" لا سيما بعد ظهور مسألة الضمانات القانونية التي تجنبه الملاحقة.
يعتقد البعض أن أحد أهداف الرئيس المرافقة للمبادرات الخليجية وتعديلاتها هو شق صفوف المعارضة، وضربها بالشارع
"
كما طالبهم البعض بالتوقف عن أي مبادرات "يترتب عليها استعداء للشعب اليمني".
يعتقد البعض أن أحد أهداف الرئيس المرافقة للمبادرات الخليجية وتعديلاتها هو شق صفوف المعارضة، وضرب المعارضة بالشارع، وصولاً إلى إفقادها الثقة وإضعافها، كخطوة أولية. كما أن ذلك من شأنه أن يحدث خلافاً في الساحات نفسها بين الموجودين فيها من أنصار المعارضة الحزبيين والمؤيدين لها، وبين المستقلين الرافضين للمبادرات الخليجية.
وبينما لا يزال الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي يعلن تمسكه بالمبادرة الأخيرة للحل، والحديث عن قرب التوصل إلى موافقة على التوقيع خلال الأيام القادمة، يبدو المشهد الميداني مختلفاً ويسير نحو التصعيد أكثر من أي وقت مضى. وبعد الرفض الرئاسي الأخير، بدأت تظهر بقوة أصوات تنادي بضرورة الحسم والزحف إلى دار الرئاسة، مقابل حديث آخر عن استعدادات وتجهيزات من قبل النظام لتفجير الوضع.
المصدر: الجزيرة
عبد الحكيم هلال
المبادرات الخليجية لإنقاذ اليمن 1986