عقب ارتكابه لعشرات المجازر الدامية بحق المعتصمين العُزل، لم يدخر النظام الصالحي الحاكم جهداً لطمس ملامح جرائمه المنظمة التي يندى لها جبين الإنسانية.
حماية القتلة وإخفاؤهم، لا يبدو إجراء الطمس الوحيد، إذ ثمة إجراءات أخرى سعى النظام لتكريسها بالتقادم في محاولة للتغطية على جرائمه الدموية ذات البشاعة التي لا توصف.
تعطيل أجهزة العدالة، إجراء جديد يحاول النظام المتداعي من خلاله تمرير تلك الجرائم والحيلولة دون أن تطال مرتكبيها يد العقاب العاجلة.
تحت بند التعطيل، بوسعنا إدراج قرار الإقالة الصادر بحق الدكتور عبدالله العلفي الذي قضى بتنحيته من منصبه كنائب عام للجمهورية.
يدرك النظام أن لا سبيل لمنع العدالة من التحقق على المدى المنظور، غير أنه – رغم هذا الإدراك- يبدو مستغرقاً باستماتة لافته في إجراءات طمس الجرائم ظناً منه بأن ذلك يمكن أن يعزز الأمل المنعدم في تغييب العدالة وإثناءها عن التحقق ذات يوم.
تتوالى جرائمه الدامية في حق المعتصمين العزل بذات النسق التسارعي الذي تمضي فيه إجراءات حجب العدالة.
يظن النظام أن تشريع العفو المُضمن في المبادرة الخليجية سيمنحه مطلق الحماية، وسيساعده في تكريس واقع الطمس الذي يناضل لإنجازه، غير انه يُغفل ممكنات تحول ظنه هذا إلى إثم بائن..
فجرائم الإبادة لا تسقط بالتقادم، ولا يمكن لأي تشريع حتى لو كان نصاً دستورياً أن يمنع أولياء الدم من حقهم (الخاص) في الاقتصاص من قتلة أبناءهم وذويهم دون وجه حق.
جدية أرعبت جلاوزة النظام
في أوضاع استثنائية ثورية كالتي يعيشها الوطن، لا يمكن لقرار –كإقالة النائب العام- أن يمر مرور الكرام دون احتجاج يترافق مع تدقيق في الدلالات وتمحيص في الغايات والأبعاد.
فالنائب المُقال، حتى وان بدا حصيفاً في التعاطي مع تفاعلات اللحظة الثورية، إلا انه لم يكن متهاوناً في التعامل مع قضايا الدماء وبالأخص تلك التي سفكها قناصة الحرس الجمهوري في جمعة الكرامة الدامية.
استشهاد (52) معتصماً دفعة واحدة، مشهد دموي مروع، أيقظ في دواخل الدكتور عبدالله العلفي مشاعر الحمية والغيرة، وخلّق لدية إحساساً طافقاً بالمسؤولية التاريخية الجسيمة في ملاحقة الجناة وتطبيق نصوص العدالة بحقهم.
لقدى بدا الرجل جاداً إلى حد أرعب فيه جلاوزة النظام الدموي ومرتكبي جرائمه النكراء بحق المعتصمين العُزل من شباب ثورتنا المجيدة.
اقتران الفعل بالقول، كان سلوكاً واصفاً لمعظم تحركات الرجل، إذ لم يكتف بالتوجيهات الشفهية والخطية فحسب، بل سعى لتقصي الحقائق بنفسه إثر نزوله الشهير إلى ساحة التغيير، ومضى في ممارسة شتى أنماط الضغط بهدف القبض على الجناة والتحقيق مع كبار القادة والضباط في أجهزة الأمن والحرس الجمهوري.
إجراءات جادة ومواقف حازمة كهذه، لا يمكن أن تمنح النظام المتداعي فرصةً لتمرير الإقالة وإنفاذها من عنق زجاجة الرفض الشعبي والثوري.
إذ أن الإقالة –في التوقيت الراهن- تُجسد خطباً جللاً وحدثاً غزيراً بالدلالات الباعثة على القلق والتوجس.
التحقيق مع الأولاد والفضائية اليمنية
بالنسبة للنظام الصالحي، تتصف مسببات الإقالة بطابع تراكمي، غير أن تراكمها المتخلق بفعل تعددها، لا يعني بالضرورة عدم وجود تعليل رئيسي قابل للتفرد.
يوم الأربعاء الآنف، كان النائب العام على موعد مع لقاء موسع يضم خمسين محامياً من أنصار ومنتسبي ثورة الشباب.
اللقاء كُرس لمناقشة مسودة المطالب الثورية التي قدمها الفريق القانوني إلى مكتب النائب العام مشفوعة بالأدلة والبراهين.
تمحورت أبرز المطالب حول ضرورة التحقيق مع المتورطين في مجزرة جمعة الكرامة الدامية، وفي مقدمتهم احمد علي عبدالله صالح قائد الحرس الجمهوري والقوات الخاصة، ويحيى محمد عبدالله صالح رئيس أركان حرب قوات الأمن المركزي، وعمار محمد عبدالله صالح وكيل جهاز الأمن القومي، بالإضافة إلى محافظ المحويت ووزير الداخلية.
عقب نقاش مستفيض، بدا النائب العام مقتنعاً بالحيثيات الماثلة والدلائل المرفقة، حيث أكد للفريق القانوني من المحامين استعداده للتحقيق مع الأسماء المذكورة باستثناء وزير الداخلية الذي يمتلك حصانة لا تجيز التحقيق معه سوى بقرار اتهام صادر من مجلس النواب بالاستناد إلى نصوص القانون رقم (6) لسنة 1995م، الخاص بإجراءات محاكمة شاغلي وظائف السلطة التنفيذية العليا في الدولة.
تجاوب النائب العام مع المطالب الثورية المشروعة والمشفوعة بالأدلة والقرائن، لم يقتصر على موافقته واستعداده التحقيق مع نجل الرئيس وأبناء أخيه فحسب، إذ أبدى النائب استعداده أيضاً للتحقيق مع الفضائية اليمنية وذلك عقب أن قدم إليه الفريق القانوني دلائل تشير إلى تورط القناة (المملوكة للشعب) في التحريض على العنف ضد أبناء الوطن من المعتصمين.
انتهى اللقاء المثير باتفاق قضى بأن يتم تقديم المطالب والأدلة في صباح السبت الماضي على أن يوجه النائب العام بالتحقيق مع الأولاد والفضائية عقب فحص الأدلة والتأكد من القرائن والبراهين المرفقة.
الإقصاء كضربة استباقية
موافقة النائب العام على التحقيق مع الأولاد، جسدت بالنسبة للنظام التوريثي العائلي، قرعاً صاخباً لأجراس الإنذار، ومؤشراً ينذر بإخفاق كل الجهود الرامية إلى حجب العدالة وتمييع قضايا سفك الدماء.
في أقل من 24 ساعة، عكفت أجهزة الأولاد ودوائرهم النافذة على إعداد سيناريو تنفيذي طارئ للإطاحة بالدكتور عبدالله العلفي من منصبه كنائب عام للجمهورية وتعيين بديل أقل حماساً وجدية.
بوسعنا هنا أن نصف قرار الإقالة رقم (17) لسنة 2011م بالضربة الاستباقية، فالأولاد ومن ورائهم الرئيس، كانوا يخشون فعلاً من اتجاه النائب العام لإخضاعهم لطائلة التحقيق وهو ما قد يُمهد بالتالي لصدور قرار بتوجيه الاتهام إليهم رسمياً بالتورط في سفك الدماء الطاهرة البريئة خلال جمعة الكرامة الدامية.
مبررات إقصاء الدكتور العلفي
في شأن كالإقالة، حتى وإن كان التحقيق مع الأولاد تعليلاً رئيسياً لحدوثها، إلا أن ثمة تعليلات أخرى لا تقل أهمية.
بإمكاننا أن نورد أبرز التعليلات التي أدت لصدور قرار الإقالة في ثمانية محاور أساسية.
أولها: رفض الدكتور العلفي للضغوطات السلطوية العليا التي مورست بهدف دفعه لإغلاق التحقيقات في جريمة (جمعة الكرامة الدامية) وإحالتها إلى المحكمة تحقيقاً لغاية الكلفتة والحسم السريع للقضية، حيث أصر العلفي على استمرار التحقيقات وشمولها لكل الضالعين في ارتكابها والمتهمين بإصدار التوجيهات وعلى رأسهم الأولاد وكبار القادة والضباط في الحرس الجمهوري والأمنيّن المركزي والقومي.
ثانيها: موافقة النائب العام على طلب للفريق القانوني كان يقضي برفع معسكرات البلاطجة المسلحين التي جرى استحداثها بهدف الاعتداء على مسيرات المعتصمين، حيث أبدى العلفي استعداده لتوجيه أمر إلى وزير الداخلية –في ضوء الإدالة والبراهين- لرفع تلك المعسكرات بوصفها تهديداً للسلم الأهلي.
ثالثها: رسالة النائب العام إلى رئيس حكومة تصريف الأعمال التي طالبه فيها بالقبض على المتهمين بارتكاب مجزرة جمعة الكرامة، إذ يشير الموقع الالكتروني للنيابة العامة إلى أن العلفي هدد في رسالته بالاستقالة من منصبه إذا لم يتم القبض على المتهمين.
رابعها: موقف النائب العام من القرار الجمهوري الصادر بإعلان حالة الطوارئ، هنا سبق للنائب العام خلال اجتماعات ولقاءات مع قانونيين توجيه انتقادات لاذعة لقرار إعلان الطوارئ نافياً دستوريته، ونُقلت عنه أيضاً تصريحات قال فيها أن قرار الطوارئ لا معنى له.
خامسها: توجيه النائب بفتح تحقيقات موسعه بجميع النيابات على مستوى المحافظات فيما يتعرض له المعتصمون من مجازر وانتهاكات وأعمال عنف على يد بلاطجة النظام المتداعي.
سادسها: اتخاذه لإجراءات جادة في محاولة الاغتيال التي تعرض لها قائد الجناح العسكري للثورة الجنرال علي محسن صالح، حيث سبق للنيابة العسكرية التابعة للنائب العام أن طالبت حكومة تصريف الأعمال بتسليم المتورطين في ذلك الحادث الإجرامي للتحقيق معهم واتخاذ الإجراءات القانونية بحقهم.
سابعها: زيارة النائب العام إلى ساحة التغيير بصنعاء ومعاينته لجثامين شهداء جمعة الكرامة الدامية، بالإضافة إلى موقع ارتكاب الجريمة ومباشرته للتحقيقات في ذلك الحادث الإجرامي البشع بنفسه.
ثامنها: تأكيد النائب العام في لقاءات مع محامين وقانونيين أنه ممثل للشعب ونائب عن الأمة وليس موظفاً لدى نظام صالح.
جدل حول دستورية الإقالة
إن كان التباين سائداً في مواقف القانونيين من (عدم دستورية) قرار الإقالة، فإن الإجماع بالمقابل يبدو حاضراً بقوة حين يتعلق الأمر (بانتفاء قانونية) قرار الإقالة الصادر بحق الدكتور العلفي.
في مشروعية القرار من الناحية الدستورية، ثمة تباين ناشئ عن أمرين، أولهما: فكرة العزل الواردة في المادة (151) من الدستور، وثانيهما: حقيقة استقلال السلطة القضائية الوارد في المادة (149) من الدستور أيضاً.
التعارض المتمخض عن المادة (151) يتمحور حول مدلول مفردة (العزل) الواردة، فالمادة نصت على الآتي: القضـاة وأعضـاء النيابـة العامـة غير قابلين للعزل إلا في الحالات وبالشروط التي يحددها القانون.
معظم الآراء تزعم هنا أن المقصود بمفردة (العزل) هو العزل عن الوظيفة القضائية وليس العزل عن المنصب، وبالتالي يزعم هؤلاء أن إقالة النائب العام لا تندرج ضمن هذه المادة لكونه لم يتعرض للعزل الوظيفي، بل تعرض للتنحية من منصبه مع الإبقاء على وظيفته كقاضٍ في السلطة القضائية.
بخلاف طرح كهذا، يعتقد القلة أن مفردة (العزل) تسري على المنصب كسريانها على الوظيفة، ويستدل هؤلاء بنص المادة (86) من القانون رقم (33) لسنة 1991م الخاص بالسلطة القضائية، حيث تنص المادة على الآتي: القضاة غير قابلين للعزل من مناصبهم إلا إذا كان العزل عقوبة تم توقيعها في دعوى محاسبة بموجب أحكام هذا القانون.
وبما أن المادة قرنت العزل بالمنصب كنص صريح وواضح، فإن القرار الجمهوري رقم (17) لسنة 2011م بتعيين نائب عام جديد لا يعد دستورياً.
في شأن المادة (149) من الدستور، تتمحور التباينات في رأيين أساسيين، أولهما: يرى عدم جواز تدخل السلطة التنفيذية في استقلالية القضاء، وثانيهما: يعتقد بوجود هذا الحق استناداً للقانون المتعارض مع الدستور.
فالمادة نصت على الآتي: القضاء سلطة مستقلة قضائياً ومالياً وإدارياً والنيابة العامة هيئة من هيئاته، والقضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون ولا يجوز لأية جهة وبأية صورة التدخل في القضايا أو في شأن من شؤون العدالة ويعتبر مثل هذا التدخل جريمة يعاقب عليها القانون، ولا تسقط الدعـوى فيهـا بالتقـادم.
حسب المادة، لا يجوز للرئيس كسلطة تنفيذية التدخل في أعمال القضاء، لاسيما عقب تعديل المادة التي كانت تمنحه حق التدخل بصفته رئيساً لمجلس القضاء الأعلى، وبما أن الرئيس صالح لم يعد وفق هذا التعديل رئيساً لمجلس القضاء، فتدخله بالتالي غدا مقتصراً على تمرير قرارات مجلس القضاء الأعلى والمصادقة عليها في صورة قرارات جمهورية دون أن يكون له الحق في تعديلها أو رفضها.
الرأي الآنف يتناقض مع أولئك الذين يعتقدون بأن القانون يتعارض مع الدستور فيما يتعلق باستقلالية القضاء، فالقانون يتضمن نصوصاً تجيز للسلطة التنفيذية ممثلة برئيس الجمهورية ووزير العدل التدخل في جانب من أعمال القضاء.
إجماع على عدم قانونية الإقالة
التباين حول عدم الدستورية، يقابله توافق حول عدم قانونية القرار الجمهوري بإقالة الدكتور العلفي من منصبه كنائب عام.
إذ حددت المادة (19) من القانون رقم (39) لسنة 1977م الذي لازال ساري المفعول، آلية تعيين النائب العام بدقة متناهية، حيث اشترطت ترشيح النائب العام الحالي وعرض وزير العدل، بالإضافة إلى موافقة مجلس القضاء الأعلى كثلاثة إجراءات وجوبية تسبق أي قرار جمهوري بتعيين نائب جديد.
وجاء في المادة النص التالي: يعين النائب العام والمحامي العام الأول والمحامون العامون ورؤساء النيابة العامة ووكلاءها بقرار جمهوري بناءً على ترشيح النائب العام وعرض وزير العدل وموافقة مجلس القضاء الأعلى.
وبالتالي فقرار الإقالة ليس قانونياً البتة، لسببين، أولهما: أنه لم يصدر بناءً على موافقة من مجلس القضاء الأعلى أو ترشيح من النائب العام الحالي أو عرض من وزير العدل، وثانيهما: أنه لا يجوز لوزير العدل رفع أي ترشيحات بتعيينات جديدة، لكونه أضحى وزير تصريف أعمال فقط كما هو حال حكومته.
كلا السببين يتمتعان بدرجة إقناع عالية، فالإقالة لم تأت بناءً على موافقة مجلس القضاء الأعلى لكونه لازال في إجازة قضائية ولم يعقد أي اجتماع له مؤخراً، وحتى لو افترضنا جدلاً حدوث المستحيل (وجود موافقة من مجلس القضاء) فإن شرط الترشيح من النائب العام الحالي لم يحدث أبداً تماماً كما هو حال العرض من قبل وزير العدل، وإن حدث عرض الوزير، فهو عرض غير قانوني لكونه صادراً من وزير في حكومة تصريف أعمال، إذ لا يجوز له دستورياً رفع أي تعيينات جديدة.
وماذا بعد
لا تبدو غايات النظام من قرار الإقالة مقتصرة على آنف التعليلات فحسب، إذ ثمة تعليل إضافي يتصل بترتيبات المرحلة الانتقالية عقب التوقيع على المبادرة الخليجية وتشكيل الحكومة الوطنية.
فالنظام المتداعي بعد أن حقق له وجوداً في التركيبة القيادية للمرحلة الانتقالية بواقع 50% من الحكومة التي سترأسها المعارضة، هاهو يحاول الاستحواذ على المؤسسات النوعية التي يمكن أن تتحول إلى ساحات صراعية مع شركاء المرحلة الانتقالية عبر تمرير تعيينات ذات طابع ولائي.
وبالتالي فقرار الإقالة يعني أيضاً، استحواذ المؤتمر الشعبي العام في المرحلة الانتقالية على النيابة العامة بموازاة إبقاءها أسيرة للتعطيل بهدف الحيلولة دون أن تأخذ العدالة مجراها في قضايا قتل المعتصمين.
باختصار..
إقالة النائب العام محاولة سلطوية مفضوحة للي ذراع العدالة والتغطية على جرائم الإبادة المرتكبة بحق المعتصمين العُزل، كما أنها تجسد حمايةً لمرتكبي تلك الجرائم وتمهد الطريق لارتكاب جرائم جديدة مطموسة المعالم، بالإضافة إلى سعيها لإيقاف الإجراءات المزعجة التي استحدثها النائب العام المُقال والحيلولة دون خضوع الأولاد لطائلة التحقيق.
أخيراً، لاشك بأن إقالة النائب العام في توقيت حساس كالذي تمر به ثورة الشباب يعد مؤشراً خطيراً يستوجب بالضرورة تحركاً جاداً.
وبما أن قرار الإقالة غير قانوني لما بيناه سلفاً، فإن مجلس القضاء والقضاة وأعضاء النيابة والمحامين وشباب ثورتنا مطالبون بموقف مصيري لإسقاط هذا القرار الصادر عن رئيس متآكل الشرعية وكفى!
نقلاً عن صحيفة حديث المدينة.
al_leswas@hotmail.com
حسين اللسواس
الاستحواذ على النيابة وطمس جرائم النظام دلالات إقصاء العلفي من منصب النائب العام 2075