ربما يبدو السؤال المطروح اليوم وخصوصا بعد إفرازات الثورات القائمة في البلدان العربية والذي يدور حوله الكثير من الجدل وبخاصة في الدول التي حطت رحال الثورة فيها .
والسؤال: ما هو شكل الدولة القادمة ؟ وهل هي دولة مدنية تسمح بجميع متطلبات الدولة المدنية المعاصرة والتي تنبني في أساسها على أساس الديمقراطية في الحكم وإرجاع السلطة للشعب وإطلاق الحريات المختلفة وقبول الآخر؟ وغيرها من الكثير والذي ينسب لهذه الدولة وإن كانت هذه النسبة نسبية لحد ما.
أم أن شكل الدولة سيكون دينية يرجع في أصوله وتشريعاته إلى صبغة دينية يكون الشعب فيها منقاداً للأحكام الشرعية وله جوانب المراقبة والمحاسبة للحكام مع تقييد الحريات وغيرها من الأمور التي يعتقد الكثير أو يتعمد أن ينسب إلى الدولة الدينة كل هذه الأمور للهروب من استحقاق تطبيق الشريعة الإسلامية في شعوب إسلامية رضيت بالله ربا وحكما وبالإسلام دينا ودولة وبالرسول محمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا وقائدا وموجها.
وبما أن السلفيين بدأوا يظهرون كتيار قوي وأن موقفهم من الدولة المدنية واضح وبخاصة عندما تكون هذه الدولة تنبني على هذا المصطلح والذي نشأ في البيئة التي أفرزته وهي البيئة الغربية والذي يتساوى فيها مصطلح الدولة المدنية مع مصطلح الدولة العلمانية وإن كان البعض يحاول جاهدا لأن يحرف هذا المصطلح عن مساره ومعناه الحقيقي ليخرج إلينا بمصطلح توفيقي ملفق وبما يسمى الدولة المدنية ذات المرجعية الدينية، نظراً لمتطلبات المنهج التوفيقي عند هذه الجهات أو من يحاول التلاعب في توجيه معنى الدولة المدنية مقابل الدولة البوليسية والاستبدادية لذر التراب على العيون واستغلالاً لحماس الجماهير العربية والإسلامية وتحسساتها من الأنظمة الاستبدادية والتي من أجلها قامت الثورات للتخلص من هذا الظلم والاستبداد، إلا أن السلفيين موقفهم واضح تجاه مصطلح الدولة المدنية ومتطلباته وخطورته على مستقبل هذه الجماهير الإسلامية الثائرة والتي يخشى السلفيون أن تستدرج مرة أخرى إلى نموذج آخر نتيجة ثوراتها القائمة، تكون فيه قد تحررت من ربقة الظلم والفساد ليدخلها في ربقة استعباد العباد للعباد..
وإزاء هذه الخشية الحقيقة لدى السلفيين وبدون الدخول في تفاصيل فلسفة الدولة المدنية وإزاء الدعوات المتصاعدة لدى بعض من النخب في الدول التي حطت رحال الثورات فيها والصيحات المتصاعدة أيضا في عمق الثورات التي ما زالت تنتظر.. فإن موقف السلفيين تجاه هذه المسالة قد يكون شاقا إذا ما نظرنا إلى مواقف الأطراف آنفة الذكر وأطراف أخرى ركبت موجة هذه الثورات لتحقيق أجندات خاصة بها قد ترى أن الاختلاف في هذه المسألة ليس جوهريا، استنادا إلى النظرة الميكافيلية والتي تنبني عليها مناهجها السياسية التغيرية في هذه البلدان ويمكن أن تتبنى أي مصطلح وبغض النظر عن مدلولاته لتحقيق الأهداف الإستراتيجية والمآرب الأصولية حتى لو كان ذلك على حساب انتمائها الديني أو الحضاري ويدفعه ذلك إعجابها لما تزعم أن الغرب حققه حينما اتبع نموذج الدولة المدنية في دعوة ظاهره له تعني في مجملها وتفصيلها فصل الدين عن الدولة وبما يطابق الدولة العلمانية..
كذلك تتجه دعوات أخرى ولكن بمنحى آخر وبأساليب ملتوية تحت مسميات الليبرالية أو الوسطية لإخراج نماذج تلفيقية مرحلية تحقق بواسطتها للجماهير شيء من التطور والرقي ورفع مستويات الدخل للفرد وتماسك الجبهة الداخلية وتحقيق انتصارات لوجستية ولو كان تحت مظلة الدولة العلمانية العريقة، من أجل ذلك كله فإنه ينبغي على السلفيين في المرحلة القادمة وهي بلا شك شاقة وصعبة تناول هذا الموضوع الحساس من الناحية التأصيلية والنظرية بعمق وبيان أثره المدمر على جماهير الأمة الإسلامية وعلى المدى المتوسط والبعيد والذي ستستدرج به ومن خلال هذه الاتجاهات والتي تسوغ لها الأخذ بمثل هذه الأمور دون تحريرها النظري والتأصيلي ومعرفة أساس نشأة هذه المصطلحات وما يترتب عليها من طمس هوية هذه الأمة وتشويه حضارتها الثقافية ومسخ هويتها الحضارية والإسلامية على المدى المتوسط والبعيد.
وحتى تتضح ملابسات هذه القضية ولكي لا يقع السلفيون بين ملابسات هذه المصطلحات يجب الأخذ بعدة أمور :ــــ
1ـ تجلية هذا الأمر للخاص والعام وبيان أهمية الرجوع إلى المصطلحات الواضحة والتي تنبثق من ثقافة هذه الأمة وحضارتها العريقة بدلا من استيراد مصطلحات يكون الركون إليها على أقل التقدير إحداث بلبلة وهرج داخل صفوف هذه الأمة.
2ـ التوعية الفاعلة والمستمرة لجماهير الأمة الإسلامية وذلك باستخدام كافة الوسائل المتاحة والتي تحقق القرب الحسي والمعنوي من هذه الجماهير بما يجب عليها في حق دينها وأنها كما ثارت على حكامها المستبدين لقاء ظلمهم لها فإن يحكمها أحد بغير شرع ربها فإنها تقع في ظلم أشد مما وقع عليها بل ربما جاء ذلك الظلم عليها عقابا لها لتقصيرها في ذلك.
3ـ توضيح ملابسات ما يهوش به كثير من الداعين لإقامة الدولة المدنية وذلك على جانبين، حيث يصور للناس أن الدولة المدنية ليست سوى حلم منشود يعطي فرص متكافئة في الحقوق والواجبات ويجمع الجميع على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم وذلك دون البيان لتفصيلات يمكن من خلالها توضيح قواعد مهمة تبين أن الأمة تحتاج إلى التفريق أحياناً وذلك مقتضى السنن الشرعية والعرفية وان هذا ليس على إطلاقه وفي جانب آخر يصور أن الدولة الدينية قد تؤدي إلى التناحر والتصادم بين الناس وتسليط فئة على بقية الناس، مما يؤدي إلى حصر الثروة والسلطة بأيدي معينة يكون نتاجها ظهور الصراع بين مكونات المجتمع المختلفة.
4ـ المشاركة الفاعلة من قبل السلفيين في جميع الفعاليات واستغلالها لبيان حقيقة المنهج السلفي تجاه إقامة الدولتين وإقامة المحاورات والندوات أمام مرأى ومسمع من جماهير الأمة حتى لا تبقى تائهة بين الأطروحات الكثيرة والمختلفة ويكون طرح السلفيين في هذا الحال غائبا أو محصوا أو محيدا.
5ـ بيان شمولية المنهج السلفي لجميع مناحي الحياة وأن الدولة في نظره ليس أداة قمعية بيد مجموعة من الناس ولا أنه منهج تبريري يبرر لمن يمتلك هذه الدولة إخفاقاته وتصرفاته بل يبين أن الهدف من الدولة هو إقامة العدل وتحكيم الشرع القائم على قواعد منبثقة من الكتاب والسنة وبما يوفر النظام العام للأمة والتي تكون من خلاله مصانة من خارجها ومتماسكة من داخلها وكذا يوفر الصالح العام لها بحيث يمكنها من أن تكون قوية في نظر أعداءها وخصومها.
6ـ مخاطبة النخب الثقافية والسياسية والإعلامية ومحاورتها وفق منهج سلفي رصين يجمع بين الأصالة في الاستدلال والحجة والمرونة في الحوار والإخلاص والصدق في التطبيق والتفوق في الطرح ويحدد الغاية من ذلك، وأن السلفيين قبل أن يكونوا دعاة فهم نصحة لهذه الأمة.
7ـ تحديد الأوليات في المنهج السلفي وتوضيح ما يقوم به خصومه من ترويج لإبعاده عن جميع الساحات وحصره في زاوية يكون فيها دائما في حال المدافع أو استخدامه كفزاعة يمكن أن يحققوا من ورائها الكثير من الأهداف والغايات.
8ـ إبراز معالم المشروع السلفي في كافة المجالات وأنه منهج قائم على التدرج والتخصص فيتسع لجميع الآراء و الأطروحات إذا انضبطت لتحقيق النظام العام والتزمت بالصالح العام الذي يضمن لهذه الأمة رقيها وهيبتها.
9ـ بيان أن المنهج السلفي يضمن الحقوق والحريات ويتعامل مع الناس على مختلف مشاربهم ومناهجهم وفق منهج قائم على العدل والحلم وينطلق من قواعد تكريم الإنسان وحفظ حقه كإنسان من دون أن يتعدى على حرية الآخرين أو يغمط حقوقهم.
ختاما:
فإن دعاوى أن السلفيين يرفضون الدولة المدنية ـ كونها تدعو إلى التحضر والتمدن وتحفظ الحقوق والحريات ـ دعاوى باطلة لا أساس لها وأن السلفيين ينطلقون في قيام الدولة من أصلين مهمين:ـ
الأول : حفظ حق الله في التشريع
الثاني : حفظ حق العباد في التكريم
فإذا حققت الدولة المدنية هذين الأصلين صار منطلق نظرة السلفيين لهذه الدولة من قاعدة لا مشاحة في الاصطلاح.
علي مبارك ملص
السلفيون بين دولة مدنية ودينية 2262