لم يعد ما جرى في تونس ومصر مثالا يمكن الركون له في توصيف ما يجرى الآن في ليبيا واليمن وسوريا، ففي تونس ومصر هرب زين العابدين مبكرا وبعد أن أيقن أن كلفة الاستمرار باهظة وهو غير قادر على دفعها، وفي مصر أدرك مبارك أن كلفة الاستمرار باهظة أيضا وان النظام ليس مستعدا لدفعها كما أدرك أن الذي سيدفع الثمن عاجلا أم أجلا هو ورجاله وأسرته فقبل بحكم العسكر وها هو الآن مسجونا في المستشفى، في تونس ومصر استلم الجيش السلطة واخذ يقدمها للشعب خطوة خطوة مع تغيير كامل لشكل النظام وشخوصه وأدواته، وفي الحالتين زين العابدين مسجونا في منفاه السعودي ومبارك محبوسا في سجنه الاستشفائي، اما القذافي بدمويته المعروفة وغروره الذي أوصله حد الجنون كان منذ البداية صادقا مع غروره ودمويته عندما وصف المتظاهرين سلميا من أبناء شعبه بالجرذان وخاطبهم متسائلا « من انتم «؟ في سؤال كان القصد منه نزع صفة الآدمية عنهم، ومن تلك اللحظة قرر أن يحول الاحتجاجات السلمية إلى مسلحة لكي يبرر قتلهم ونجح في ذلك وهو مازال يستبيح قتلهم بدم بارد وليس لديه دانى شك بصوابية وشرعية ما يقوم به، يمارس كل ذلك غير عابئ بوحدة ليبيا ودم شعبه ومستقبله، فالمهم هو وهو فقط.
لقد شكلت تجربة القذافي الدموية، الهاما للرئيس على عبد الله صالح حيث بات الرئيس اليمني على قناعة أن العنف والقتل يستطيع أن يبقيه في الحكم ولذلك نراه يواصل العناد والتلاعب بالوقت ورفض المبادرات الداخلية والخارجية للوصول إلى تسوية تضمن تنحيه وضمان عدم محاكمته هو وعائلته، وللأسف فان صمود القذافي عبر شلال الدم وكذلك صمود صالح عبر مئات القتلى وآلاف الجرحى سيغرى الاخرين من رؤساء الانظمة الشمولية المتسلطة بالتعامل بنفس الوسائل التي استخدمها القذافي والرئيس على عبد الله صالح.
ولكن ما لا يدركه هؤلاء أن الشعوب لا تهزم وان هذه الأنظمة لا يمكن أن تدوم وان هناك مجموعة حقائق جديدة يبدو انها غائبة عن أذهانهم وهي ما يلي :
أولا: أن شعوب جمهوريات الظلام حطمت حاجز الخوف وان الخوف عندما يتلاشى من قلوب الشعوب لا يمكن أن يعود مرة أخرى، وبالتالي فان هذه الشعوب ستبقى قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أية لحظة.
ثانيا : لقد ُكسرت هيبة رؤساء جمهوريات الاستبداد وتحولوا من « قادة ملهمون « إلى أعداء لشعوبهم.
ثالثا : لقد ولد العنف الدموي في هذه الجمهوريات وحدة وطنية غير مسبوقة بعد أن كانت السلطات في هذه الجمهوريات تلعب على وتر التفريق الطائفي أو العشائري أو الجغرافي ليبقى النظام هو الملاذ للجميع.
رابعا : لقد اسقط العنف الدموي في هذه الجمهوريات نظرية أن الأمن والاستقرار يشكل الأولوية المقدمة على الحرية والديمقراطية، وأصبحت الشعوب بعد جرعات العنف الدموي مصرة على أن الحرية هي التي تولد الاستقرار والأمان وليس العكس.
يقول عبد الرحمن الكواكبي في كتابه الشهير « طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد « عن المستبد ما يلي : (لا يخفى على المستبدّ، مهما كان غبياً، أنْ لا استعباد ولا اعتساف إلا مادامت الرّعية حمقاء تخبط في ظلامه جهل وتيه عماء، فلو كان المستبدُّ طيراً لكان خفّاشاً يصطاد هوام العوام في ظلام الجهل، ولو كان وحشاً لكان ابن آوى يتلقّف دواجن الحواضر في غشاء الليل، ولكنّه هو الإنسان يصيد عالِمَه جاهلُهُ.
العلم قبسةٌ من نور الله، وقد خلق الله النّور كشّافاً مبصراً، يولّد في النفوس حرارةً وفي الرؤوس شهامةً، العلم نور والظلم ظلام، ومن طبيعة النّور تبديد الظّلام، والمتأمل في حالة كلِّ رئيس ومرؤوس يرى كلَّ سلطة الرئاسة تقوى وتضعف بنسبة نقصان علم المرؤوس وزيادته).
جريدة الملف
رجا طلب
الحكم بالدم وشرعية القتل؟! 2063