* المثقف ليس ملاكاً:
لست أدري من الذي وضع للمثقف مواصفات قريبة من رؤية "نيتشة" للسوبر مان، بينما المثقف جزء من واقع، مهما حاول تجاوزه يشده الواقع المتخلف نحوه، ورغم هذا نطلب من المثقف أن يكون متحرراً حتى من الحاجة، بينما المثقف بشر مثله مثل غيره، قد تجبره الفاقة إلى الخنوع، بل هناك مؤامرة مستمرة من أصحاب المصالح، هدفها تمريغ أنف المثقف في التراب وإجباره قسراً على الشحت والتسول في بعض الحالات، وحالات قد يضطر فيها إلى مد يده للحكام الذين يجدون متعة في إذلاله.
والمجتمع الذي يجبر مثقفيه على المهانة ليس مجتمعاً متحرراً، بل مجتمع يخفي في أحشائه الهوان، يضطهد فيه الكبير من هو أصغر منه، فيضطر الصغير الانتقام ممن هو أصغر منه، وهكذا سلسلة من القهر الترابي.
المثقف لا يمكن أن يكون ملاكاً، ما لم يتحرر من ذل الحاجة، لأن المثقف بشر له رغبات مشروعة يجب تلبيتها حتى يتفرغ لنقد سلبيات الواقع ولا يجب أن نتوقع من المثقف المقهور والمظلوم إبداعاً وتمرداً على ما هو سائد، قبل تلبية الحد الأدنى من مطالبه، ليس المطلوب أن نوفر للمثقف قصر الحمراء، ولا جواري خلفاء العصر العباسي، وإنما فقط تلبية أهم حاجة أساسية في حياته مهما كانت، بعدها نطالبه بتجاوز ما هو كائن إلى ما يجب أن يكون.
صعب جداً أن يعيش المثقف باحثاً عما يسد رمقه أو يلبي ضرورة من ضروراته، ثم نطالبه بالتفرغ للمهام الكبرى، لأن المثقف بشر ولم يهبط من كوكب آخر، إنه جزء من غريزة الحياة، تطارده إرادتها القاسية وضغوطها النفسية وإكراهاتها البيولوجية، لهذا قد يقع في منتصف الطريق، فتتلقفه مراكز القوى لكي تنصب له الفخاخ، لإذلاله وإسكات صوته، في مجتمع تحكمه الفاقة، فاتخذ من تراث القناعة كنزاً لا يفنى، كعملية تعويض لجوعه الدائم، لذا فهو يصفق مع مراكز القوى فرحاً في حالة ما إذا وقع المثقف في هفوة مدبرة أو مقصودة، بل يتحول المثقف إلى بقرة تكثر سكاكينها إذا أنَّ أو توجَعَ، وقد لا يكتشف زملاؤه سر الخدعة، فيقعون أيضاً ضده في صف الأقوياء.
المثقف في الدول المتخلفة مُحَارب إن صام ومُحَارب إذا فطر، محارب إذا قال الصدق ومحارب إذا كذب، محارب إذا اغتنى بالرشوة، لأن المجتمع المتخلف يشعر إزاءه بالنقص، لذا يحاول أن يحوله إلى "حمار"، عملاً بالمثل القائل: "بين أخوتك مخطئ ولا وحدك مصيب".
يجب أن نزيل فكرة وجود مثقف يتصف بمواصفات الملائكة، فهذه الفكرة موجودة عند الملائكة أي في السماوات العُلى، ونحن هنا في الأرض، علينا أولاً أن نحرر المثقف من ذل السؤال ومن قهر الزمن ومن قسوة الحياة، بعدها نطالبه بالملائكية.
لقد كان الفيلسوف "جان بول سارتر" ينام قرب الروائح الكريهة، وقصة الكاتب الرهيب "جان جينيه" معروفة، فلا نطلب من المثقف أكثر مما عليه كبشر، شريطة معرفة حاجته للدفء والحب والحنان وتلبيتها.
alhaimdi@gmail.com