يجزم البعض بأن الأشياء التي لا تبلى في البلاد مهما طال الأمد بها هي الشخصيات السياسية المحنطة على مواقع قيادية وإن كانت لا تغني ولا تسمن من جوع، كما أن الشيء الذي لا يخفى على أحد هو الفساد والإهمال طبعاً، فحين يبدو النظام ببهرج حلة جديدة تكون الشخصيات هي ذاتها وكذلك الأمر بالنسبة للمعارضة.
قد تتغير الشخصيات في المناصب الحكومية والرسمية، غير أن الفساد يظل كما هو وزد عليه قليلا، فكثيراً ما تأتي الدولة بمسؤولٍ بديلٍ ليبقى الإهمال يلازمه كظله وكأن الدولة جاءت به ليعتلي الكرسي ويمارس سياسة الهبر فحسب.
هل كانت السلطة لا تدرك أن هناك عبثاً قائماً في أجهزتها وإهمال المسؤولين فاضحاً أمام مقرات أعمالهم لازال إلى اليوم، فأكثر ما تبدو متألماً على سيارتك وتدرك أنه لم يعد بها عافية، حين تقودها في الشارع الممتد أمام الإدارة العامة للمرور بالأمانة، فبمجرد الوقوف على أحد أرصفة الشوارع يبدو الإهمال جلياً بزخم من التعرجات والحفر وأكثر ما تغلبك الحسرة لتشفي غليلك بضرب كفك على صدرك عندما تكون مظلوماً لجأ إلى الدولة ينشد الإنصاف فعاد منها منهوباً، والأكثر إيلاماً حين يخرج طفلك كالعصفور يترنم بالنشيد الوطني فيجد نفسه غارقاً في لجة من مياه الأمطار المترسبة أمام الهيئة العامة للطرق والجسور، ولعل قمة الحماقة أن تصفق لشرعية نظام عاجز عن توفير اسطوانة غاز لمواطني شعبه وإن كانت الدولة مصدرة لمادة الغاز، ومنتهى البلاهة هو التعامل مع التغيير من منظور القوى البالية أو الركون لشخصيات قد عاف الزمان نخالة أدمغتها ولا زالت تغالب الكحة لتهتف باسم شباب الثورة، فيما المضحك حين تتذكر انجازات وزارة الصحة فتصاب بحمى الاكتئاب وأنفلونزا الضجر.
منذ عقود وطن يئن تحت وطأة العبث والإهمال وما إن يحن الوقت للتغيير، تتجاوز السلطة ووجهها الآخر المعارض الدستور ليتم الخروج عن إرادة الشعب والقانون لتوقيع تسوية سياسية في اتفاقات جانبية غالباً ما يتم إمضاؤها قبيل كل انتخابات.
إن سلطة القوى النافذة إذا ما أصبحت أقوى من سلطة القانون تبدأ الثورة بوادرها في ظل استشراء الفساد في مرافق الدولة وأجهزتها ولعل إدراك السلطة في لحظة السقوط المرير أن إهمال مسؤوليها هو الآخر يسفر عن أنظمة ضحية، لا ينجيها من التهاوي ولا يجعل من الوطن المغدور بخنجر الساسة سريراً ناعماً للمتثائبين بعد أن تنكر له الجميع في النخب وأرادوا له التشييع دون وقفة حداد.
ها هي الأوضاع لا تخفى على أحد، تمر بمرحلة مخاض لقادم مجهول المصير، فبعد أن تدافعت الجماهير إلى الشوارع تهدر بنشيد التغيير، تقمصت النخب السياسية دور إنقاذ البلاد في مسلسل الرقص على رؤوس الثعابين، الكل يدَّعي الإصلاح زيفاً، يلوذون بمصطلحات الإفك جميعاً، طرفاً يحاول عبثاً قيادة ثورة ما كان في الحسبان أبطالها وآخر يتشبث بشرعية تجندلت بهدير الشارع.
اليوم الشخصيات التي كان الأحرى بالشعب أن يحنطها ليودعها متحف الفاشلين ويشخبط ما أمكن تفسيره من طلاسم سيرتها العفنة على مزبلة التاريخ، هاهي تطل علينا بهياكلها كديناصورات بعثتها صفارة التغيير، قادمين ببهتان السياسة، يلهثون وراء المصالح، يلهبونا حسرة بخطاباتهم البالية، يحاولون فرض وصايتهم علينا ليراوغونا بحواراتهم العقيمة ويريدون من الشعب الإنصات لحكاويهم وهم يحركون ماءً في القدر، بينما النظام كعادته لا يزال يتلمس الفرحة فينا، يتعامل مع الشعب كأطفال صغار لا يفقهون الاعيبه، يوعدنا بالصمود والتشبث بنسيج أسماه الشرعية الدستورية.
كل ما نتوق إليه هو التغيير بحيث لا يوجد بيننا مكان لمسؤول لا تتجاوز انجازاته بوابة المرفق الذي يديره، ليس بمقدور فاسد أن يتسكع في مدننا دون خشية عقاب، لا وجود لقبيلة أو منطقة لا تخضع لسيادة الدولة، لا فرق بين أحمر أو أبيض أو أسود ولا مواطن و آخر إلا بتقوى النظام والقانون.. لذا أملنا على الشباب وحدهم وليس على المشترك، إذ أن بمفهوم الأنظمة الديمقراطية، المعارضة جزء من النظام والسلطة المراد إسقاطهما، كما أن المعارضة كعادتها جزء من المشكلة ولم تكن يوماً جزءاً من الحل.
بالمناسبة أحد ضحايا بلاطجة النظام في أسبوع كنتاكي تعرض لهجوم قاس من قراصنة منصات التغيير.. مازالت جراحه تنزف ولفافة الشاش تعصب رأسه، إلا أن ذلك لن يحول دون إقحامه بمشادات وفوضى مع بعض من يفرضون أنفسهم على المنصة حيث هاجموه في محاولة لإجباره على الاعتذار عما بدر منه في مقابلة صحفية سبق لـ"أخبار اليوم" نشرها، قال فيها إن بعض أحزاب المشترك مسيطرة على ساحات التغيير.. فرضاً كان المصاب غير موفق في إجابته، أعتقد أن الأمر لا يستدعي الصراخ في وجهه والتلويح بطرده، لكنه قال الحقيقة التي ربما أغضبت الكافرين بحرية التعبير وصراحة القول.. عفواً صديقي فحين تعتذر المعارضة للنظام أو يعتذر الرئيس لها ربما قد يكون هناك تفكير للاعتذار لأتباع المشترك، فمثلما هي الطرق المهملة ممتدة على بوابة المرور، ستظل أصوات النشاز مهملة ولو امتدت على منصات التغيير.
جل ما نخافه أن نكون كالمستجيير من الرمضاء بالنار، بعد أن علقنا قناديل آمالنا على ثورة شباب من أجل التغيير.