محافظة تعز تعيش هذه الأيام كسائر محافظات الوطن أحداث الثورة للتخلص من هذا النظام المقيت وتفتح وأبناؤها الثوار المناضلون آفاقاً واسعة من الحرية والكرامة ورفع الهامات التي طالما أنهكها الفقر والفساد والاستبداد، وتفشل مساعي هذا النظام البائس في التصدي لهذه الجماهير سواءً في تعز أو في كل محافظات البلاد، وتفشل مؤامراته وترحلها إلى مزبلة التاريخ، فهو اليوم أمام وعي جماهيري كبير، ولن يستطع هذا النظام البغيض في تجاوز اصطفاف الشعب، صانع الثورة والمدافع الأمين عنها.
شعب لم يتقن ثقافة الثورة فحسب وإنما أجاد التعامل مع كل من يتسلح بالعنف ويتمنطق بالسلاح، وأربك كل من يتربع على عرش الشيطان لحماية فخامته بالبلطجة المربحة، فطالما اكتسبت البلطجة زخماً إعلامياً، كثقافة جديدة تجابه الثورات، توقفنا القصص المروية من ألسن أصحابها أو التي تنقل عبر الوسائل الإعلامية، لكننا لم نع حقيقتها إلا عندما صادفناها وكثرت أيام الصدف بيننا وبينها.
نحن لا نعلم إن كانت هذه الحالة الهستيرية، التي يعيشها البعض وطفت على السطح هل هي حالة طارئة وستزول ما أن يزول فخامته، أم أنها ستأخذ منحناً آخر وتصبح ثقافة نائمة تنشط ما أن تظهر أحداث ما على الساحة، فهذا الأمر جد خطير، فالكثير اليوم يعيشون في مغالطات ولا أعتقد أن عدم الفهم والدراسة والوعي كان سبباً رئيسياً لها، وحتى الفقر لا يمكن أن يكون مبرراً لبيع الذمة والتخلي عن المبادئ، أم أنها المصالح والممناصب؟، تعددت المظاهر والبلطجة واحدة.
لقد عملت الثورة على إسقاط تلك الأقنعة ورتوش المكياج عن كثير من الوجوه، لتظهر بشاعتها وفظاعة تصرفاتها ومقاتة ثقافتها، كنا ننكر بلطجة من هم في الشارع، لكننا عجبنا وفجعنا من بلطجة النخب، أكاديمي الجامعات والعلماء وطلاب نالوا قسطاً من التعليم، في هذه الثورة والتي أشغلت القاصي والداني يتحدث عن الجانب شبه الراكد فيها، ألا وهو الجانب السياسي ويتحدث أكثر عن الجانب العنيف، يبحث في الأسباب والنتائج وبهذه المسيرات التي أًصبحت شيئاً مألوفاً في الشارع، يتحدث عن الأغلبية، عن القتلى والجرحى ويأتي للجانب الجميل فيها ألا وهو سلميتها وهناك تفاصيل أجمل بكثير في خضم هذه المسيرات ومواقف تجعلك تفخر أكثر بهؤلاء الأحرار، لأنهم لم يتركوا السلاح في المنازل فقط، بل تركوها كثقافة، لأنهم إن كانوا يريدون عنفاً لاستطاعوا أن يحولوا كل ما هو عادي من حولهم إلى أداة للقتل والعنف والدمار.
يطالعنا الثوار بأخلاق تجعلنا نقف لها وقفة إجلال وتقدير، لمستها عن قرب عندما دخلت في صفوفهم، دونما يشعر بي أحد فأدركت حينها أنهم ليسوا ثواراً فقط، بل كونهم أصحاب ثقافة ثورة جديدة، تأخذ جانباً عملياً ملموس النتائج، ثم خرجت مع هؤلاء ولا أنكر أنهم مزقوا صوراً لما اعتبروه رمزاً للبؤس والفقر والفساد، لكنهم خلال ذلك لم يرموا حجراً ولم يكسروا زجاجة ولم يقطعوا غصناً، حتى أن بعض الصور والتي أبت التمزق لقوة تشبثها بالجدار كتمسك صاحبها بالكرسي، وكان قد اقترح أحدهم إحراقها وهي على الجدار، فصرخوا صرخات استهجان ورفض لمثل هكذا اقتراح وقالوا سلمية سلمية، سنمحي الفساد ولا نعبث في ممتلكات الوطن، وأخرى تذهب لتقطف غصناً من باب اللهو، فتأتي زميلتها وتأخذ الغصن منها معاتبة وتقول: قلنا سلمية.
تقف مذهولاً لنبل أخلاقهم ووعيهم بأن العنف لا يحقق المطالب، بل يستجلب المصائب، لكن وعلى الجانب الآخر وليس ببعيد عن هؤلاء ممن سقطت الأقنعة والابتسامات الزائفة والشعارات المفرغة عنهم، لنرى طالبة جامعية تعتدي على زميلاتها ضرباً وشتماً وتأخذ بعض اللافتات من أيديهن وتمزقها، فقط لأنها تحوي ما يردد في الساحات والميادين وإذا كنا سنعاتب الصغار، فماذا نقول عن أكاديميي الجامعات، يبدو أن تصرفات بعض مدراء المدارس قد راقهم كثيراً، لنراهم يشهروا السلاح بوجه طلبتهم، لأنهم نادوا بالتغيير وآخر يعتدي على طالبة بالضرب لأنها أرادت توثيق بعض مظاهر العنف الذي يحدث في أروقة الحرم الجامعي المقدس،
لتتحول الجامعات إلى ثكنات عسكرية ومن بين الجند يدخل البلطجية والذي يظهر من أشكالهم أنهم ليسوا من طلاب الجامعات والله أعلم، ولا أعلم كيف دخلوا إلى الحرم الجامعي وبالجنابي مع أننا نٌفتش عند البوابة وتُأخذ منا القبعات والشعارات وآخرون يدخلون بزيهم البلطجي دونما حسيب أو رقيب.
بين من يتجول بالورود وبين من يتجول بالأسلحة يظهر الوجه البشع لهذا النظام ولولا التزام الثوار بسلمية ثورتهم وعدم الانجرار إلى الفوضى، لكانت الدماء تسيل في كل مكان وعُبث بملامح هذا الوطن الغالي، لكنهم تحملوا الضرب والشتم والظلم والتهميش، ليحافظوا على سلمية نضالهم، كما تحملوا الرصاص الحي وقنابل الغاز السام من قبل.
لكنني أتساءل كثيراً ماذا عن هؤلاء البلطجية؟ من استهووا العيش في المغالطات، أي توعية يجب أن نعمل عليها لنشرح لهم معاني الكلمات والتصرفات التي يقومون بها دونما إدراك أو وعي، نحتاج إلى قواميس في التعامل وتقبل الآخر وحتى في كيفية الدفاع عن رزم الدولة، وقاموساً سياسياً لغوياًليسهل لهم عملية التعامل مع بعض المفردات السياسية والتي أسقطوها على توافه الأمور ويؤولونها إلى معانٍ لا يقبل بها من قريب أو بعيد، أيعقل أن العاطفة قد أعمت هؤلاء؟ يبدو أن مشكلتنا كنخب ومجتمع تكمن في الوعي.
أصبحت الأمور واضحة جداً، لوضوحها أصبح أغلب الشعب يغوص في تفاصيل واقعه تفسيراً وتحليلاً وقراءة للمستقبل، وآخرون بالحديث معهم لا تعلم من أي كوكب جاءوا، قلب الحقائق وحبك المكائد والحديث معهم فيه أقل الفوائد ولا تزداد إلا حسرة عليهم.
الأمر يستدعي منهم الوقوف وقفة جادة على الأحداث والوقائع وترك العاطفة المقيتة التي تلغي صوت العقل، لأن الأمر بحاجة لعقلانية من الجميع وعدم الانجرار وراء كل إشاعة وكل خطاب لمسؤول، لأن الجميع يعزف اليوم على الأوتار الحساسة لهذا الوطن ويعبثون في خصوصيته، خدمة لأهداف مريضة، فتقلب الحقائق إلى مغالطات والثوار إلى أعداء ومخربين.
نظام سحق شعبه قتلاً وتنكيلاً وجرحاً وتجريحاً للكرامة والأعراض، حتى النساء والذي أفتى بحرمة تواجدهن في الساحات والمظاهرات، لم يتأخروا في اختطاف النساء في بادرة هي الأولى من نوعها، فسحقاً لمثل هكذا نظام وسحقاً لمن لم يعقلوا بعد ليُصروا على أن يكونوا على تلك الخرق البالية المهترئة التي تحاول عبثاً أن تواري عورات هذا النظام التي باتت مكشوفة.