مثلما تطفوا السفن على وجه الماء تطفوا الجيف كذلك، فالبحر من الطهر، حيث لا يقبل خطيئة تسكن أحشاءه، بعكسنا نحن البشر الذين تسكننا مشاعر الغدر والخيانة وسطوة الأنا والتلذذ برؤية الآخرين، يفقدن أجمل ما لديهم في لحظات صراع مريرة مع جبابرة من البشر فقدوا أحاسيس الإنسانية إثر رقصة خلود كاذبة على أنغام الغواية والنفاق والتدليس.
تلك المشاعر الزجاجية في داخلنا تتحول إلى شظايا قاتلة تمزق الوجدان وتنحر هتاف أناتنا على أضرحة الماضي البليد، فتبقى دماء الحسرة والكآبة تنزف داخل أرواحنا دون توقف.
قد تعترينا حالة تبلد عاطفي عميقة حتى تبدو مشاعرنا بلهاء غبية غير قادرة على التمييز بين عدو وحبيب، لكن من أين لنا بذلك المجهر الذكي الذي يفحص بدقة حقيقية نوايا الآخرين التي تكسر ظهر أمنياتنا سريعاً، قبل أن نتفوه بأغنية نائمة، تسكن حنايانا بلا كلمات.
من أين لنا بتلك النظارة الذكية التي تكشف ما تقوله أعينهم في لحظات تتصاعد فيها الرغبات الجائعة في نظرات بريئة نصدقها فقط، لأن أعيينا حينها تصبح مرايا لقلوبنا النقية التي لا تعرف الكره والخيانة.
الشيء المحزن في أمر هذه المشاعر الغادرة أنها لا تفوح برائحة مميزة، تحذرنا من البوح والاستمرار في صب ماء العذوبة على من يفتح لنا الأبواب المغلقة متى شاء ويوصدها متى شاء دون احترام لهذا السيل المتدفق منا ورغماً عنا من أحاسيسنا المرهفة.
ومن المحزن أيضاً أن مشاعرنا ليست ملكاً لنا ولا يمكن التحكم بها بسهولة وليس لها حدود لتتوفق عندها عند العطاء، لأن معينها هي الروح والروح عالم مجهول لا يمكن إدراك ماهيته.
لكن المطمئن في هذا السياق اللطيف من المحسوس واللامحسوس أن مشاعر العطاء والحب لها حاسة سادسة مثلها مثل البشر وفي لحظة ما من قمة الغليان العاطفي تستطيع أن تتلمس بزوائدها الأثيرية ملمس الخيانة الرخو وتشتم رائحة الخطر، فتتراجع إلى مواقعها صامتة، لكنها تعلمنا درس الإنصات لأنفسنا قبل أن ننصت لكلمات الآخرين، الذين يقتحمون خلوة قلوبنا ويتجاوزون حدود تجاوبنا ويهدمون أسوار الخوف لدينا بمعول العفوية والبراءة وتحت مسميات كثيرة كاذبة ورخيصة حد الانطراح.
ويقال إن لكل عالم هفوة ولكل جوادٍ كبوة، وأنا أقول: لكل يقظٍ غفوة!.
وتلك الغفوة هي من تسمح لاإرادياً بتسلل الأغراب والأشرار وأصحاب الحرف البلاغية إلى قلوبنا وعقولنا وبعدها تبدأ حبكة الحب الكاذبة التي تتمزق خيوطها في أول عملية شد أو جذب واقعي فطري، بعيداً جداً عن الإمكان والتمكين.
ومرة بعد مرة نصل إلى قناعة الوقوف من جديد حتى لا تمر علينا عوامل التعرية ويزول رونق الكبرياء عن قلوبنا قبل الأوان.
وحتى يحين وقت آخر لخريف آخر.. تظل أشجار قلوبنا مورقة باليقظة والحذر، وفي لعبة المشاعر يخسر الجميع، الخادع والمخدوع، كلاهما يرحل مهزوماً تثقل كاهله الذكريات وتحديداً حين يكون الخادع والمخدوع من أصحاب حرفة واحدة ولكل منهما نقاط ضعف وقوة مشتركة حد الذوبان والتماهي.
لكنها الحياة لابد أن تذيقنا طعم الخذلان حتى نستطيع أن نميز طعم الانتصار فيما بعد، ولابد أن تجبرنا على دفع ثمن التهور حتى نقدر قيمة الهدوء والتأني واختيار الذين يمكن أن يكونوا أوفياءً إلى الأبد, ولابد أن تجرعنا كأس الحرمان حتى نشعر بنعمة الموجود بين أيدينا ولم نعط له قيمة تذكر.
من حق الحياة أن تعلمنا ومن حقنا أن نتعلم، لكن ليس من حقها أن تجرحنا لأننا لم نتعلم بعد كيف ومتى نتألم.
* أودُ العثور على راحتيـك
ولكن عينيَّ معصوبتان
يداي تداعبان الفضاء
وساقيَّ موجٌ من التوهان
ألطاف الأهدل
مشاعر...... 2153