إن حب اليمن وعشق الوطن وحب التحرر من الاستبداد والتطهر من المستبدين الذين ظلموا اليمن بلاداً وعباداً؛ هو الذي أخرج هذه الثورة الشبابية الشعبية المباركة، والتي تضم اليمن كل اليمن، إن هذه الساحات والميادين هي التجسيد الحقيقي لحب اليمن، فمن أجل اليمن ينام هؤلاء المعتصمون على الإسفلت وهم من يملكون البيوت والمأوى، ومن أجل اليمن يعتصمون في الساحات والميادين، ومن أجل اليمن نصبوا الخيام، ومن أجل اليمن قدموا التضحيات الجسام، ومن أجل اليمن يتلقون الرصاص الحي من القناصة القتلة بالصدور العارية وهم يهتفون سلمية سلمية، والموت يحصد الأرواح البريئة، فيصبرون لأجل اليمن ولا ينجرون إلى دائرة الدم ومربع العنف الذي يحاول النظام جاهداً جرجرتهم إليه.
إننا نقول للدنيا بأكملها وللعالم بأجمعه وبصوت مرفوع: إن حبنا لليمن مشفوع بالبرهان، ومصحوب ببذل الدماء، وهؤلاء المعتصمون الأحرار شبابا وشيوخا يستشعرون معاني الوطنية الحقيقية في التضحية بالنفس والنفيس لأجل أبناء اليمن.
إن حب اليمن والولاء لها ولأهلها هو الذي حدا بأبطال جيشنا اليمني العظيم في الانضمام للثورة وتأييدها، وهو الموقف الكبير والمشرف الذي سيتباهى به الجيش اليمني أبد الدهر، بأن قادته الأشاوس ورجالاته العظماء قدموا الوطن على المصلحة الشخصية، وأعلنوا للدنيا أنهم لن ينجروا إلى حرب أهلية بل سيستلهمون الثورة السلمية فيتلقون الموت بصدورهم العارية، وأكد أولئك الأبطال الأشاوس أن اليمن قد أتعبته الحروب وأنهم يسعون مع الشباب الثوار لتسليم السلطة للمدنيين، وهو ما يؤكد صوابية الرؤية وصوابية القرار.
أيها المعتصمون الأحرار: إن أعين اليمنيين وقلوبهم في الداخل والخارج ترنو نحو هذه الساحات والميادين ترى فيكم الأمل للخروج من هذا الجور، الشباب العاطل يرنو إليكم لتنصفوه بالحق في العمل، والمظلوم يتطلع إليكم مشتاقا إلى العدل، والمكروب يدعو الله لكم بالنجاح لأنه يرى فيكم تنفيسا لكربه، والمحتاج الفقير المعوز يسأل الله لثورتكم النجاح لكي يجد فرصة للعيش الكريم، بعد ثلث قرن من المعاناة والبؤس حتى أن بعضهم يتحسر ويقول: لو حكم على الشعب اليمني بالسجن المؤبد (27عاما) لكان قد أنهى مدة السجن المؤبد عام 2005م. ولكننا تجاوزنا مدة السجن المؤبد بزيادة ثمان سنوات.
لقد سئمت اليمن هذا النظام الجائر الذي لا يجيد غير التخبط والتأزيم وإثارة الفتن وبناء الضغائن بين فئات المجتمع اليمني وتكويناته، فأمست السياسية اليمنية تسير من سيء إلى أسوأ، وعاشت تتنقل بين الخطأ والغلط وتستروح من الاختيار الخاطئ إلى الاختيار الأشد خطأ.
إن الحياة مجموعة من الفرص (البدائل أو الاختيارات) ولكن البعض مصاب بداء عمى الألوان فهم يدمنون الاختيار الغلط طوال الوقت؛ حيث يستهويهم الخطأ، ولا يلتفتون إلى الصواب أبدا، وهؤلاء ـ رغم خسارتهم الظاهرة ـ ليسوا الحلقة الأضعف في مضمار الحياة، فهناك من هو أشد حمقا منهم، وهو من يشتري الخيار الخسران بماله، ويجتهد في المكر بنفسه، ويخادع ذاته، ويضحك عليها، بشعبية زائفة، وهتافات مدفوعة الثمن، وهذه الجماهير المشتراة ليست جماهير حقيقة؛ لأن المشاركين فيها مثل تلفون الشارع لا يعمل إلا برصيد مسبق، إنهم أصحاب الخدمة المدفوعة القيمة مسبقا، وتسميتهم جماهير نوع من الضلال السياسي؛ حين يصبح المسئول كرتا يلعب به مجاذيب العمل السياسي، ودراوشة النفاق من علماء السوء، وخطباء الفتنة، فيصبح المسئول مثل جيفة حولها النسور تنهشه بلا رحمة، أو تهاون أو شفقة من أرباب القول المنمق، وهو يقول: إن هذه الجماهير، وأضعافها تحلق في السماء نحوي، وتحوم في إطاري، وهذا هو العمى السياسي التام، الذي يودي بصاحبه إلى المهالك، يصل إلى قتل النفس المحرمة، والاعتداء بإزهاق الأنفس البريئة، وسفك الدم المصون، وهو أمر نبرأ إلى الله منه، أو الرضا به.
فكم يتمنى الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك اليوم لو أنه قبل بخيار الرحيل المشرف، يوم طرح عليه بدلا من تصديقه قـنواته الرسمية والأمانات العامة لحزبه، لقد أودوا به إلى المهالك فبدلا من لقب الرئيس السابق أصبح اسمه الرئيس المخلوع، وهاهو يجرجر إلى المحاكم، ولو خرج خروجا مشرفا لرحم شيخوخته وحافظ على تاريخه السياسي، واحتفظ بالاحترام لأسرته كما فعل الرئيس الأسبق القاضي/ عبدالرحمن الإرياني حين لم يقبل أن يراق دم طائر دجاج من أجل بقائه على الكرسي، فلم ينس له الشعب اليمني وشبابه الثائر هذا الموقف الوطني الشجاع، في حفظ الأنفس، وحقن دماء الشعب اليمني، فهاهي صور القاضي/ عبدالرحمن الإرياني تملأ ساحات التغيير.
وهذا يقودنا إلى تساؤل مهم أين دور بيت الإرياني في دعم ثورة الشباب وبخاصة السياسي اليمني الكبير د. عبد الكريم الإرياني؟ الذي يدرك أن الشعب اليمني الوفي لا ينسى من يقفون بجانبه، وينحازون إليه، وله أن ينـزل إلى ساحات التغيير ليرى صور القاضي/ عبدالرحمن الإرياني ظاهرة بارزة ملونة مرفوعة في الصدور على شكل بطائق، وعلى الخيام في صورة ملصقات، صور ملونة وهي صور طبعت على نفقة شباب التغيير وليست من أموال الخزينة العامة، ولا على نفقة بيت الإرياني؛ إن المجد الحقيقي أن يرفع الناس صورتك محبة ووفاء لا يخالطه خوف أو يشوبه طمع بل هو اعتزاز وانتماء، ولم يفتك قطار الثورة يا دكتور عبد الكريم فأنت في صف المقدمة ونربأ بك وبتاريخك أن تختار غير اللحاق بركب الثورة، فهلم فأنت لها.
إن نظام صالح قد فقد بوصلة الحياة التي تسيِّر الحياة بجوانبها المختلفة سياسيا واقتصاديا واجتماعياً وثقافياً، وفقدان البوصلة يسبب الاختلال في هذه الجوانب جميعاً.
إن الإنسان يتخبط حين يفقد البوصلة فيصبح وجوده خطراً على نفسه وعلى مجتمعه، حين تختلط عليه الجهات، ويلاحقه الخذلان، فيسمي الأشياء بغير مسمياتها، وتحيط به خطيئته، فيرى خطاياه حسنات، وموبقاته عملاً صالحاً، ويصبح مثل القط الذي يلعق أثر الدم على مبرد الجزار، فينحت المبرد لسانه فيصبح يلعق دمه ويرتشف لسانه، لأن شعوره بالوقت والعمل غائب عنه.
إن ساعة الرئيس السياسية مؤخرة جدا، فهو يأتي بعد أن يفوته القطار ـ طوال الوقت، وذلك أن جهاز الرادار السياسي لديه معطل، لذلك فقد القدرة على الالتقاط، فهو لا يلتقط إلا ما يهواه فقط بغض النظر عن كونه الصواب أو الخطأ، يمكن القول في حقه: إنه يحك بطريقة جيدة ولكنه في غير موضع الحكة.
إن الخداع السياسي مرض محبب لدى النظام حتى ولو كان فيه خداع للذات، بل حد الوصول إلى التآمر على النفس، والعناد غير المبرر، فيصبح الإنسان المصاب بهذا الخداع للذات بأداة تسمى الجماهير الزائفة، والإعلام الكاذب، مثل الإنسان الجرب يستلذ المريض به الحكة، فيشتد بها وعاقبتها وخيمة على الجسد حدا يبلغ الجراح، ويحدث الندوب في البدن، وهذا النوع من الخداع يجعل الإنسان في غرفة كلها مرايا ليس فيها نافذة على الحياة فلا يرى إلا نفسه.
إن الرئيس عزل نفسه، وزاده عزلة أنه لا يسمع إلا صوت نفسه، وهو يشتري الجموع لتهتف له، فمن يأتون إليه هم مجاميع مدفوعة الأجر سلفا، فهو يصنع لنفسه شعبية كرتونية، وليست شعبية حقيقية، ويظهر ذلك بوضوح حين يتأمل الإنسان كيف تهفوا أنفس الشعب وجماهير اليمن العريضة إلى غيره، ويقلق الملايين على شخص سواه، ويسخطون على محاولة اغتياله، لقد أصاب النظام الشلل في الحواس الخمس فلم يشعر بمن يقـنت الناس في الصلاة بالدعاء عليه، ويستغيثون الله أن يزيله، ومن يتضرعون إلى الله في السجود بالدعاء له.
إن الحقيقة الصادقة تقول: ما قيمة الحياة في نظر أي شخصٍ لنفسه إذا أصبح وجوده كابوسا، يحتشد الناس في الملايين لشهرين متتاليين ونيف لإزالته، ثم هو يمنِّي نفسه الأماني بجموع تبحث عن أمين الصندوق، وأنهم في ساحة السبعين كالعصفور في القفص لا يكاد أحدهم يستلم المال حتى يطير لا يلوي على شيء، فما أن ينتهي الخطاب حتى ينفض الجمع كأنهم كانوا في حبس، وأمر آخر هل سيبقى من في التحرير لو منعوا الدجاج والألفين، أو ترك لهم الخيار بالذهاب للتحرير مجانا.
لقد كان شعبنا مسحورا بهذا النظام والقائمين عليه، وكانت هذه الثورة الشبابية المباركة هي الرقية التي أذهبت عنه السحر، بل وزيادة على ذلك فقد انقلب السحر على الساحر، فأصبح يصنع السحر ويسحر نفسه.
لقد شقت ثورة الشباب مسارها وتجاوزت كل الحواجز وذابت كل الفوارق وانتهت مظاهرها السلبية التي رسخها النظام في بلادنا على مدى ثلث قرن، فرأينا الشباب يتركون مقاعد المتفرجين ويجتمعون بمختلف انتماءاتهم السياسية والمذهبية والفكرية لصناعة اليمن الجديد.
إنه لا خوف من تأخر النصر، ولا خوف من تباطؤ المحيط الإقليمي أو تردد الموقف الدولي، إنكم تصنعون ثورتكم بأنفسكم، وكم ستقر أعينكم حين تروون لأولادكم وأحفادكم أنكم صبرتم وناضلتم سلميا مستعينين بالله ومعتمدين عليه ثم مستعينين بصبركم وسلميتكم دون مساعدة من أحد، كم ستتباهون بذلك أمام الدنيا أنها ثورة يمنية شبابية شعبية خالصة.
وأخيرا سألني بعض شباب الثورة: ما الضمانات التي تمتلكها ثورة الشباب لإنجاز مطالبها؟ فقلت لهم: إن ساحات التغيير هي الضمانات الحقيقة للتغيير فإننا إذا رأينا اعوجاجا قومناه باعتصامنا، إن خيمتي جاهزة للاعتصام. وتلك حقيقة ـ الاعتصام لنيل الحقوق ـ يجب أن لا تغيب عمن أيدوا الثورة، أو قاموا بها.
د. محمد عبدالله الحاوري
ثورة الشباب السلمية.. تزيل الاستبداد وتمنع عودة المستبدين 2076