أعترف أن وداعي لهذا القائد العربي قد تأخر عن موعده لأسباب منها أن الأقدار اختارت أن يكون رحيله إلى عالم الخلود متزامناً مع رحيل خصمه اللدود حسني مبارك إلى خارج التاريخ، في حين أنه بموته يدخل التاريخ ثانية من أوسع أبوابه، كأسطورة وطنية وقومية، لكن رحيل مبارك شغل الناس على المستوى الوطني والقومي والعالمي عن وداع القائد سعد الدين الشاذلي بما يليق به وطنياً وعربياً بوصفه واحداً من القادة العسكريين الذين حققوا انتصار أكتوبر المجيد 1973م وكان له الفضل الأكبر في إعداد القوات المسلحة، وفي تحديد ساعة الهجوم وتوزيع المهام على القيادات المختلفة في الجيش وفق حسابات قتالية ميدانية بالغة العمق والدقة مضمونة النجاح .
وما يحزن قلب كل عربي أن القائد سعد الدين الشاذلي لم يشهد نهاية قصة مبارك كاملة، كما لم يتمتع يوماً واحداً بالانتصار العظيم الذي حققه، فقد سارع منافسوه وعلى رأسهم أنور السادات إلى استثمار ذلك النصر لحسابه بعد أن حوّل النصر العسكري العظيم، إلى هزيمة سياسية كبيرة، وعمل فوراً على إقصائه عن مجاله العسكري، ولم يكتف بإبعاده وتعيينه سفيراً ليخلو له ولمن التفوا حوله الجو لكي يواصلوا حملات ادعاءاتهم الزائفة بما حققوه من انتصار على العدو الصهيوني، وإجباره على الجلاء من قناة السويس بعد تكبده خسائر فادحة لم يكن يتوقعها، أقول إنهم لم يكتفوا بإبعاد اللواء الشاذلي عن موقعه العسكري وعن وطنه وعن التمتع بما أحرزه من انتصار عظيم، بل تابعوه باتهاماتهم الكاذبة وحكموا عليه بالنفي خارج مصر، وعندما عاد إلى وطنه وضعوه في السجن لسنوات لأنه رفض الاعتذار عما فعله وقاله، وصادروا مذكراته ووقفوا ضد نشرها .
ومن نافلة القول إن حال هذا القائد العربي لم يختلف عن حال قيادات عربية كثيرة أوصلها دورها القيادي المشرف والمتميز إلى الموت أو السجن أو النفي، ليس في التاريخ العربي القديم والحديث فحسب، وإنما تاريخ البشرية كلها، ومن يقلّب دفاتر التاريخ يجد من الأمثلة الصارخة ما يكشف بوضوح عن مصارع الكثير من القيادات العظيمة التي ذهبت ضحية تفوقها وتميز أدوارها، فضلاً عما لقيته في تاريخها من العنت والحسد والمنافسات، وهو ما جعلها عبرة تاريخية ورمزاً لما تمتلئ به نفوس كثيرة من الحاكمين من كراهية للتفوق وعداء للمواهب، ومن حرصهم على اختيار الفاشلين والمفلسين لقيادة شؤون البلاد ولإدارة مرافقها المهمة .
وحين قرأت مذكرات اللواء سعد الدين الشاذلي في طبعة باهتة أكبرت مواقفه وأحزنتني معاناته وزاد يقيني بأن مناخاً عربياً كالمناخ الذي عاشه هذا القائد العسكري والسياسي المحنك لا يجود إلا بالقليل جداً من الرجال الذين يكونون عند حسن ظن أوطانهم وشعوبهم إيماناً والتزاماً بشرف المهمة وما تقتضيه الظروف من استعداد دائم للتضحية وتحدي الأوضاع الشائكة ومجابهة كل ما تتعرض له الأمة من مهانة للكرامة، وما أحوجنا اليوم إلى مثلك يا سعد الدين .
نقلاً عن الخليج الإماراتية
عبد العزيز المقالح
في وداع الشاذلي 1874