من الطبيعي أن يحمل أي نظام حاكم فكراً مسكوناً بهموم وإشكالات الواقع المحلي، ومن غير الطبيعي أن يستبدل انشغالاته على ملفات وطنية بحملات علاقات عامة، وإعلانات تجميل فساد سياسته، والتهوين من أدائها الإقصائي لشراء الحياة السياسية.
الطبيعي يمكن الاستدلال عليه في أكثر من نظام، وفي أكثر من مكان في العالم، أما غير الطبيعي في مثل هكذا نظام يرهن احتقانات وأزمات داخله الوطني بفتوحات خارجية.. فلا يمكن الاستدلال عليه سوى في اليمن وطبعاً في ليبيا "نظام القذافي"، حيث تتحول طاولات الحوار والمفاوضات التي يدعو النظام الفرقاء في فلسطين ولبنان والصومال وغيرها إلى عصي قمع وهراوات ورصاص ودماء تسفك.. إذا ما تعلق الأمر بمطالب الشعب والمعارضة اليمنية، بالتغيير والإصلاح وحل "حلحلة" الأزمة السياسية المحكمة الإغلاق في البلاد.
"النظام" يحمل رأساً تم إعادة تشكيله على هيئة "شوال" يخرُّ مبادرات ومشاريع حلول إنقاذية لأزمات العالم.. من إعادة بناء الأمم المتحدة إلى حل القضية الفلسطينية، ومن مشكلة دول عدم الانحياز إلى إصلاح الجامعة العربية ومن فلسطين ولبنان إلى الصومال.. إلى العراق.. يطل النظام بهذا الرأس "الشوال"، يمطر الجميع بطرف وترف مبادراته، يفعل أو فعل هذا في كل رقعة ملتهبة، باستثناء اليمن!!.
هذه المبادرات لو كان قد قدمها النظام مبكراً لحل مشاكل وإشكالات الوطن، عملاً بالمثل الشعبي القائل: "يا موزع المرق أهل بيتك أحق" لما وصلت الأمور والأوضاع إلى ما هي عليه الآن من أزمة محكمة الإغلاق وشبح كارثة يلوح في الأفق.
إزاء هذا نكون وجهاً لوجه أمام وعي "مشروخ" وازدواجية غير مواربة.. في شق النظام إلى شقين: عنق داخلي وإلغاء صلف للمعارضة الوطنية.. وشق موجه للخارج.. يعلي من قيم الحوار.. ينبذ العنف.. ويبادر إلى تطويق كل خلاف يمكن أن يتحول إلى أزمة.. هذا الشق من الوعي السياسي "النظام".. يلف في كل المدارات والأقاليم.. يعرض مبادراته من دون طلب.. ويقحم نفسه من غير دعوة وحاجة أطراف الأزمة.. إلى تدخل نظام مأزوم في ذاته.. غارق في أوحال العنف.. لا يملك سوى أن يرمي "كمشة" أوراق كتبت في ساعة "سليمانية" لحل أزمة هذا.. والإدعاء بإمكانية تعطيل بوادر انفجار هناك!!.
النظام لم يجرب الفعل السياسي.. وفق مقومات موضوعية.. لا رغبات إرادوية.. فليس الحاكم "النظام" هو من يقرر وقت شاء.. أن يكون لاعباً إقليمياً أو رقماً لا يمكن تخطيه في ترتيب ملفات المنطقة.. هناك حقائق القوة: استقرار داخلي.. ونمو.. وجغرافيا.. مفاتيح لا يملك اليمن حتى عناوينها.. ومع ذلك فإن الهوس بالصورة ا لإعلانية "الديكورية"، قد غطى مساحات وعي الحاكم.. وأضحى للعبة رش المبادرات.. قوة جذب إعلان "الشوكلاتة" المبهرة المدهشة!.
وعلى الرغم من كل جعجعات مبادراته.. يظل "النظام" في اليمن هو أضعف حلقات السلسلة في المنطقة، وأوفرهم حظاً في التفكك والانهيار.. واليمن هي الأوسع احتمالاً في الاحتراب الأهلي، والأغزر نزفاً في دماء أبنائها، والأضيق فرصة في تجاوز حافة المنزلق السحيق، سيما وهي تقف على "صابونة" حكم.. لا يقدم لشعبه غير اللامبالاة والتصلب.. ومراكمة عوامل الاحتقان وعدم الاستقرار.
"نظام" لا يقدم في تعاطيه مع مشكلات الشأن الوطني "الداخلي" سوى رغوة سياسات حمقاء.. عمياء تقود، بل قادت إلى انكفاء حتمي وسقوط في جب الأزمات.
على خلفية الصورة الإعلانية يمكن ملاحظة كيف يضيف "النظام" لعدم إجادته لموضوعه الحوار مع الفرقاء الداخليين.. توكيداً آخر على غياب الإيمان بصلاحية وقدرات الحوار.. على تجاوز المحطات الملتهبة.. فالنظام يحاول من خلال مبادراته الحوارية الموجهة نحو قوى الخارج.. أن يضفي على تصلبه الداخلي ونزعته التجريمية للشعب ولخصومه السياسيين مسحة مرونة وملمح جدية في مبادراته.. ودعواته الحوارية للتعاطي مع أزمات خارج حدود صلاحياته، خارج ممكنات قدراته، وبعيداً عن صميمية توجهاته ثقافة وميراثاً وسلوكاً.
فمثل هكذا نظام يقذف بفقاعات مبادراته، لتذروها الرياح في كل اتجاه كان هو الأحوج للتعلم من تجارب المدعوين لطاولات حواراته، أن يتعلم من التجربة الفلسطينية والسودانية، احترام الخصومة السياسية والإعلاء من شأن مفردات التخاطب، بل وحتى إدارة التعارضات.
"النظام" في اليمن كان هو من يجب أن يحل ضيفاً على من يدعوهم لطاولات الحوار.. أن تعقد له ورشة عمل لإعداده وتأهيله.. كي يكون حاكماً قادراً على ممارسة أكبر سقف من الشفافية والعقلانية.. حاكماً يستمد شرعيته من الشعب من قوة الصندوق الانتخابي.. لا من فوهة المدفع الرشاش.
"النظام" الذي تناثرت أسنانه الفولاذية، اهترأت وضعفت، تآكلت وسقطت، كان هو الأحوج إلى مبادرات من دعهم لطاولات الحوار، تعلمه كيف يصبح البقاء في الحكم بعد السبعين.. وصمة وإدانة.. وكيف تغدو عملية إدارة البلاد بالأزمات.. وبأجهزة القمع والأمن والجيوش.. عبئاً زائداً عن حاجات الناس.. أمناً واستقراراً وتنمية.
كان على النظام الذي يحمل "حسب" مبادراته.. أن يتعلم أفضل سُبل احترام إرادات الشعب.. أن يؤمن يقيناً أن المصداقية والشفافية تصنع قيادات بحجم التاريخ، وأن وحدها لغة القوة من تعصف بتلك القيادات.. وتسكنها الزوايا المهملة.. تعطل إرادات التغيير.. تتعسف الحقائق وتجعل السماء وحدها الفيصل في تبادل السلطة.. لا الأرض وناس هذه البلاد.
محمد الحيمدي
لو تعلَّم النظام من مبادراته الخارجية!! 1893