لا أدري إن كان ما سأكتبه تالياً سيكون قابلاً للقراءة حتى بعد ساعات ؛ فالأحداث تتحرك على الأرض بسرعة مذهلة ، والثورة التي أشعلها الشباب الثائر منذ أسابيع تفرز كل لحظة تطوراً جديداً ، كما أن مواقف السلطة من الأحداث ليست لها كوابح أو فرامل ، وقد لا يجد هذا المقال طريقه للنشر إذا لم تأت أحداث تزيحه من الصفحة ، بمعنى أن ما سيكتب قد تتجاوزه الأحداث بعد كتابته بساعات ( ليل الثلاثاء ) ، لكنني مع ذلك أود أن أوجه تحية إلى الشباب الثائر في ساحات التغيير والحرية في كل مناطق اليمن ، الذين علموا كبار القوم أن السياسة ليست فقط " فن الممكن " ، بل أيضاً " فن الفعل " ،وأترحم على أرواح الشهداء الذين سقطوا في شوارع عدن وصنعاء وتعز وعمران ، وغيرها من المناطق ، والتي فاضت أرواحهم الطاهرة وهم عراة الصدور .
لقد حاول شيوخنا الكبار ، أقصد بالطبع السياسيين في الأحزاب السياسية الموجودة على خريطة الساحة اليمنية ، أن يصنعوا شيئاً طوال عشر سنوات ، لكنهم لم يتمكنوا من زحزحة هذه الكتلة من الخرسانة التي ظلت تبنى لـ 33 سنة ، لأنهم ببساطة كانوا يراهنون على التسويات وعلى الصفقات السياسية مع نظام لا يجيد سوى التهرب من استحقاقات الاتفاقيات ، والسياسيون يعرفون ذلك جيداً ، هي في الأساس ذهنية الأحزاب السياسية التي تربت منذ زمن طويل على الانقلابات وعلى عقلية " البيان رقم 1 " بعيداً عن هموم الناس ، لكن الشباب الثائر لم ينظر إلى الصفقات أو ما يسمى " التسويات التاريخية " لأنهم في الأساس لهم قطيعة مع الماضي ، ولا دخل لهم بذهنية قادة أحزابهم ، مع أن قطاعاً واسعاً من المعتصمين في ساحات التغيير والحرية هم من شباب هذه الأحزاب ، لكنني على يقين أنهم لن يكونوا أدوات في أيدي قادتهم ، وأنهم سيكونون بعيداً حساباتهم .
لابد من الاعتراف هنا أن النضال السلمي ، الذي نعيشه اليوم على مستوى الوطن كله كانت قاعدته الأساسية النضال السلمي في الجنوب الذي بدأ قبل سنوات ليست بقليلة ، وهو نضال خذلته للأسف القوى المدنية ومنها الشبابية وقبلها الأحزاب ، فالأحداث التي شهدها الجنوب بانطلاق العمل السلمي في مدنه وقراه ، قابلته الدولة بالعنف تحت فزاعة " السعي إلى الانفصال " ، لكن شباب الوحدة في معظم مناطق الجنوب عندما خرجوا إلى الشوارع للمطالبة بحقوقهم المدنية ، لم يكونوا يبحثون عن انفصال ، ولو أن الدولة تفهمت طبيعة الاحتجاجات السلمية التي تحركت في أراضي المناطق الجنوبية من البلاد لرأينا عملاً ديمقراطياً مختلفاً .
وللأسف فإن بعض القوى السياسية انجرت وراء تفسيرات السلطة من أن خروج الناس في الجنوب إلى الشوارع للمطالبة بحقوقهم المنهوبة أصلاً منذ ما بعد الحرب الأهلية عام 1994 هو رغبة في الانفصال ، واعتبر مواطنون في المناطق الشمالية أن هؤلاء " أصحاب مشاكل " ، وأنهم " يحنون إلى عهد الحزب الإشتراكي " وإلى " السحل والذبح في الشوارع " ، بل كان البعض من إخوتنا في المناطق الشمالية يتساءل : " ما الذي يريده أصحاب عدن ولحج والضالع وابين وحضرموت ؟ ، الرئيس قد أعاد بناء عدن بعدما كانت خراباً ، والناس كانوا في فترة ما قبل الوحدة يتقاتلون في الشوارع وكانوا لا يأكلون إلا طعاماً متواضعاً عبارة عن رز وبسباس ، ولم تكن هناك مطاعم ولا بقالات ولا مساجد وحتى الروتي والبيض كانوا يحصلون عليه بالحبة ، وإذا جاء ضيف إلى أي بيت عدني لا يجد أصحاب البيت ما يقدمونه لضيفهم .
وفي الحوار الذي أجريته مع الشيخ الفاضل عبدالله صعتر ، ونشر قبل أشهر في صحيفة " السياسية " قال لي إنه عندما نزل إلى عدن كان يعتقد إنه لن يرى أناس يصلون في المساجد ، فإذا به يرى أن الناس في الجنوب يخرجون لأداء صلاة الفجر أكثر مما يخرج إخوتهم في المناطق الشمالية .
إن تزييف الوعي عن الجنوب المتمدن من قبل البعض في المناطق الشمالية جعل الناس للأسف ينظرون إلى انتفاضة الجنوبيين بأنها سعي للانفصال ، مع أن الكل يدرك أن الجنوبيين هم أكثر حباً بالوحدة وكانوا أكثرهم فرحاً بتحقيقها ، بل أن المعاملات التي كانت تتم في الدوائر الرسمية كان يترأسها شعار " لنناضل من أجل الدفاع عن الثورة اليمنية وتحقيق الوحدة اليمنية " ، وبالتالي فإن قصر النظر لتجربة الجنوب في النضال السلمي جعل بعض القوى السياسية تنظر إلى هذا النضال بأنه سعي للانفصال وعمل من أعمال التخريب ، ولو أن هذه القوى دعمت هذا النضال الجنوبي المبكر والمتمدن للتغيير ، لما تأخرت المطالبة بهذا التغيير حتى اليوم ولما دفعنا هذا الثمن الباهظ من أرواح الأبرياء التي سفكت في عدن أولاً وتعز وصنعاء ، ولم ينتفض الناس إلا عندما وصل القتل إلى ساحة جامعة صنعاء .
لذلك أقول إن الثورة التي تتخلق اليوم في ساحات التغيير في كل منطقة في اليمن يجب أن تحافظ على نقاوتها وأن ترسم من الآن أهدافها وأن تنأى بنفسها عن أية حسابات سياسية ، لا أريد القول إنها تسعى لخطفها ، ولكنها قد تكون لها إرادة في السير بجانبها والاستفادة منها وركوب موجتها ، على الشباب الثائرين أن يبدءون ببلورة مشروع برنامج الثورة للمرحلة القادمة وأن يكونوا يقظين في الدفاع عنها وأن يكون لديهم القدرة على حمايتها وأن تكون الثورة شبابية خالصة بعيداً عن أية تجاذبات ، وعلى القوى التقليدية القديمة مغادرة الساحة وخشبة المسرح حتى تفسح للشباب أن ينعموا بثمرة ثورتهم .
صادق ناشر
إلى شباب ساحات التغيير والحرية: حافظوا على نقاوة ثورتكم 1985