في قراءة تنقصها الدقة والوعي الكامل بما يجري على الساحة العربية، كتب أحدهم مبشراً بزمن الأقاليم المنغلقة على نفسها في الوطن العربي متوقعاً أن الانتفاضات المتوالية لن تحقق سوى مزيد من تثبيت القطرية وعودة كل قطر عربي إلى ذاته ومشكلاته الخاصة بعيداً عن وحدة الصف والمصير . وصاحب هذه القراءة الناقصة غير الدقيقة لا يقف عند التبشير بهذه الإقليمية المنغلقة غير الممكنة على المستوى السياسي والاجتماعي فحسب، بل ويراها كذلك على المستوى الثقافي وإمكانية تحول اللهجات إلى “لغات” محلية لكي تضع نهاية حتمية لما يجمع العرب، وهذا عين ما كان يفكر فيه الاستعماريون ويمهدون له ويعملون من أجله منذ أواخر القرن التاسع عشر .
ولم يكن غريباً -في مثل هذه الظروف- أن ترتفع بعض الأصوات المعادية لوحدة الأمة وتجانس همومها وأحلامها وتطلعاتها، وهي أصوات فردية غريبة ظلت تظهر ثم تختفي على مدى القرن الماضي، وكانت تجد فرصتها في منعطفات المآزق والتغيير لكي تسود الصفحات بأحاديث عن انقراض العرب وانتهاء زمن العروبة ونهاية القومية وموت التاريخ . وكان البعض ينظر إلى أصحاب هذه الأصوات الممقوتة على اعتبارها عرضاً من أعراض اليأس والرؤية القاتمة إلى الحاضر والتوقع المتشائم للمستقبل، لكن الأغرب أن يحدث ذلك الآن في مناخ هذا التفتح والنهوض الجديد، (ثورات الشباب والطلاب أو الشعب كله) وهو ما لا يعني سوى شيء واحد هو غياب الوعي والركون إلى تحليلات تقليدية جامدة وبائسة ولا تعتمد أية رؤية علمية موضوعية .
من قال إن الهموم المحلية هي وحدها التي تقف وراء الانتفاضات الشعبية في أكثر من بلد عربي؟ ومن أين استقى أحدهم أسباب ذلك التحليل الخادع الذي يسعى من خلاله إلى إخفاء الترابط الجذري الوثيق بين المجتمعات العربية، وهو ترابط أعمق من أن تزعزعه كلمات طائشة من هنا وأخرى من هناك؟ وكيف لأولئك الذين يحملون المسلمات النظرية الجاهزة، والبديهيات أن يقرأوا في محاولات التغيير الشاملة خروجها عن الثوابت العربية وبحثاً عن ثقافة خاصة بكل قطر تتكسر معها الهوية الواحدة والقيم المشتركة؟ لقد أثبتت كل الأحداث التي مرت بها الأمة العربية قديماً وحديثاً أنه من الصعب بل من المستحيل الانسلاخ عن روابط العروبة وعن مفهوم الثقافة الواحدة على قاعدة التنوع في إطار الوحدة، وما يحكمها من مصير قومي مشترك .
إن نظرية تفتيت المفتت التي سعى ويسعى أعداء الأمة العربية إلى نشرها والتبشير بها لم تكن جديدة كما سبقت الإشارة إلى ذلك . وقد حاولت أنظمة حاكمة عربية تجاوباً مع تلك الدعوات المعادية أن تحدث بعض الثغرات في جدار الوعي الجامع فباءت محاولاتها بالفشل، وربما تكون قد حققت بعض النجاح في المجال السياسي والانشقاق عن الرؤية المشتركة تجاه بعض القضايا القومية والدولية إلا أن الجغرافيا والتاريخ يفرضان تأثيرهما ومنطقهما، ويجعلان من الصعب نجاح تلك المحاولات أو استمرارها كما حدث في البلدين العربيين مصر وتونس، في عهدي مبارك وبن علي . ووجد هذا البلدان أنه لا غنى لهما عن محيطهما العربي والاحتماء به مهما كانت قناعة بعض الحاكمين وإصرارهم على الانسلاخ والخروج عن الإجماع . والثورة الشعبية العربية الجديدة هي تأكيد عميق على عودة الروح للعروبة في آفاقها الديمقراطية الرحبة .
نقلاً عن دار الخليج الإماراتية