بعد اندلاع الثورة في البلاد العربية، أصبحت هناك مجموعة من الأسئلة تطرح نفسها بإلحاح على المتتبعين، مثل مآل الدعم الغربي للدكتاتوريات العربية في شقه النظري على الأقل، وطابع المفاجأة والتغيير "غير المتوقع" الذي طرأ على المجتمعات العربية. وبطبيعة الحال هناك سؤال المستقبل القريب ومآل الأنظمة العربية التي ما زالت قائمة بعد سقوط زين العابدين بن علي ومحمد حسني مبارك، ومعمر القذافي الذي انتهت شرعيته حتى لو تحصن في طرابلس بقية حياته. إنها الأسئلة الثلاث التي يحاول هذا المقال الإجابة عليها بإيجاز.
تداعي الدعم الغربي للدكتاتوريات
مما لا شك فيه أن ما يقع في يومنا هذا في مجموعة من البلاد العربية لن يُطيح برؤوس الأنظمة العربية الضاربة جذورها في مستنقعات الفساد والظلم فقط، بل سيطيح بنظريات ومقولات ثبت انكفاؤها مباشرة بعد فرار زين العابدين بن علي، أول من سقط من القادة العرب.
واهِمٌ من يعتقد أن الهزيمة لحقت فقط بمعسكر الأنظمة العربية، فقد ألحق شباب تونس وبعدهم شباب مصر الهزيمة بفرق بحث كاملة تتوزع على أقسام العلوم السياسية والعلاقات الدولية والدراسات الإستراتيجية بجامعات ذائعة الصيت في أوروبا والولايات المتحدة وبمحللي وزارات الخارجية والدفاع في تلك الأصقاع حيث يمتزج البحث العلمي أحيانا بالعنصرية المعرفية التي لا تحول دون الغوص في الظواهر المعقدة فحسب، بل تحجب الحقائق البسيطة أحيانا.
ما يقع في بعض البلاد العربية لن يُطيح برؤوس الأنظمة العربية الضاربة جذورها في مستنقعات الفساد والظلم فقط، بل سيطيح بنظريات ومقولات ثبت انكفاؤها مباشرة بعد فرار بن علي
انكفأت إذن مقاربة الواقعية السياسية التي وفرت بموجبها دول غربية نافذة الحماية للأنظمة الدكتاتورية حفاظا على أمن المجتمعات الغربية ومصالحها. لقد فشلت السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في المنطقة العربية لأن الدول الغربية لم تسع في يوم من الأيام إلى دمقرطة سياستها الخارجية، بل أعملت المكيافيلية في علاقاتها مع العرب محافظة على حكم مافيات وعائلات أطلقت عليها اسم "الأنظمة العربية المعتدلة" ودفعت لها العمولات مقابل صفقات مشبوهة لم تراع فيها إجراءات المناقصات المتعارف عليها، وبلغ التواطؤ ذروته خلال مرحلة الحرب على الإرهاب، عندما عرضت هذه الأنظمة "المعتدلة" خدماتها وتجربتها التي لا تضاهى في التعذيب على إدارة بوش الابن الذي ما زلنا نأمل أن يُحاكم أمام محكمة عادلة ومحايدة.
وحتى عندما اندلعت ثورة تونس وتلتها ثورة مصر ثم ثورة ليبيا، رأينا كيف ركز حراس معبد الواقعية السياسية في الغرب على الحركة الإسلامية وحاولوا أن يعودوا إلى الفزاعة التي طالما بنوا عليها نظرياتهم، فبدأ التلويح بخطر حركة النهضة التي أكدوا تأكيدا أنها ستحل مكان النظام التونسي قبل أن يسحب راشد الغنوشي بهدوء البساط من تحت أقدامهم عندما حجّم دور حركته في التغيير وأكد أنها تميل إلى النموذج التركي.
حسب نفس "الخبراء" في الحركات الإسلامية والإرهاب -وهم بالمناسبة لا يفهمون العربية ولا يلمون بالخلفية الثقافية للشعوب العربية والإسلامية- أصبحت صلوات الجماعة التي أقيمت في ميدان التحرير بالقاهرة دليلا قاطعا على قيادة حركة الإخوان المسلمين للاحتجاجات، أي أن من يُصلي في ميدان التحرير هو بالضرورة عضو في جماعة الإخوان التي أصبحت بين عشية وضحاها هي من اغتالت السادات وهي المسؤولة عن هجوم الأقصر ضد السياح الأجانب، وما إلى ذلك من المغالطات التي لا تعود فقط إلى سوء النية، بل وإلى جهل مطبق عند بعض هؤلاء "الخبراء".
واليوم يحاول "الخبراء" نصب فزاعة الجماعة المقاتلة الليبية وتنظيم القاعدة، عوض أن يصوبوا أخطاءهم القاتلة ويكفّوا عن تضليل المسؤولين الذين يعتمدون على تحليلاتهم، خصوصا في وزارات الدفاع والخارجية.
انتهى زمن الواقعية السياسية المسلطة على البلاد العربية، كما انتهت مهمة بن علي ومبارك والقذافي عند من ساندهم ودعمهم باسم هذه الواقعية لسنوات طوال.
لم يُسمح لطائرة بن علي حتى بالهبوط في مطار فرنسي لأن حليف الأمس في أوروبا سيتودد لسلطة اليوم في تونس. إنها بلا شك الوجهة الجديدة لكل الدول الغربية التي بدأت ترتفع فيها أصوات سياسيين وباحثين وإعلاميين نادوا منذ زمن بضرورة فتح الحوار مع المعارضة ومع المجتمع المدني في الدول العربية، دون أن يُصغي إليهم أحد.. عادوا اليوم ليقولوا إنهم كانوا على حق.
تنبّأ المنجرة عام 2008 أن قطيعة الشعوب للحكام لن تتأخر أكثر من سنة أو سنتين أو خمس سنوات على الأكثر, فما تعيشه الأنظمة العربية المتهالكة في يومنا هذا ما هو إلا وقائع موت معلن
ثورة متوقعة
إن ما وقع ويقع الآن كان مفاجأة متوقعة إن صح التعبير. لم يقرأ الحكام العرب كتابات العلامة التونسي عبد الرحمن بن خلدون، ويا لها من مصادفة أن تُنبذ رؤية علامة تونس وراء الظهور قبل أن يُطبقها شبان تونس على أرض الواقع.
جلس الرجل في قلعة بني سلامة في الجزائر قبل ستة قرون وفصل مقدمته المعروفة، وقال في ما قال "إن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونِحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة، وانتقال من حال إلى حال. وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول".
إنها سنة الكون التي تؤكد أن التغيير سرمدي بالضرورة، وربما غر الحكامَ العرب صمتُ شعوبهم وهدوؤها الذي دام سنوات فتمادوا في غيّهم. لقد احتقروا العباد واحتقروا معهم الزمن الذي لا يرحم، فقمعوا الناس في مطلع القرن الواحد والعشرين بنفس أساليب الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، ومن أدخل بعض الإصلاحات وسمح بشيء من حرية الرأي يعتقد واهما أن هذه المناورة المتأخرة ستجنبه الطوفان.
أصبحت الأنظمة التي شاخت منذ زمن عاجزة أمام شباب يتواصلون بسرعة البرق بفضل المواقع الاجتماعية، ويواكبون ثورات الجيران بفضل قناة فضائية إخبارية. لقد تغير مفهوم الزمن والمكان، وتغير المواطنون، دون أن يتغير الحكام الذين وضعوا أرجلهم الأولى في مزبلة التاريخ.
حسب عالم المستقبليات المهدي المنجرة بدأت الإنتفاضات العربية بعد التواطؤ على الفلسطينيين خلال انتفاضة الأقصى، فبعد إصدار كتابه "انتفاضات في زمن الذلقراطية" عام 2001، عاد وأكد في حوار أجري معه في فبراير/شباط 2008 أن هناك ثلاثة مشاهد: مشهد دوام الأحوال وهو غير وارد بالمرة، ومشهد الإصلاح الذي فات وقته، ثم مشهد القطيعة الجذرية مع الماضي، وهو المشهد الذي يمكن أن يتحقق بإرادة سياسية جامحة لأصحاب القرار، وإلا فستأتي القطيعة من داخل الشعب، هذه القطيعة التي قال عنها المنجرة عام 2008 إنها لن تتأخر أكثر من سنة أو سنتين أو خمس سنوات على الأكثر. ما تعيشه الأنظمة العربية المتهالكة في يومنا هذا ما هو إلا وقائع موت معلن.
أي مستقبل؟
مرة أخرى لا ينبغي أن تستعصي على أفهامنا حركية التاريخ، فما نراه مسار ذو اتجاه واحد ولا مجال للرجوع إلى الوراء. قد يغر بعضَ الأنظمة العربية التفافُ بعض المنتفعين والسذّج حول الحاكم المبجل فتعتقد أن هناك خصوصية تميّزها عن دول المحيط
لم يعد هناك مجال إلا للتعجيل بمطالب الشعب, وكل ساعة تهدرها الأنظمة التي سرى الخوف في جسدها ستعود عليها بالندم، لأنه كلما ضاق المخرج كلما كان الخروج مذلا
سيكون هذا الرأي قاتلا إن جمدت عليه هذه الأنظمة. لقد بدأ التغيير وهو لا يعني بالضرورة أن نتابع كل أسبوع سقوط حاكم لنتساءل بعد ذلك عمن سيأتي عليه الدور.. الأمور ليست بهذه البساطة لأننا لسنا بصدد مسلسل درامي أو مباراة في كرة القدم.
لقد سقطت كل الأنظمة يوم هرب بن علي إلى السعودية ومبارك إلى شرم الشيخ، انهار جدار الخوف في النفوس ولاح الأمل بعد طول انتظار. وحتى الدول الخليجية التي تُصر على خصوصياتها الاجتماعية وبنيتها السياسية العتيقة، يجب أن تستعد هي الأخرى لتغييرات جذرية إن هي أرادت أن تربح شيئا من الوقت وإلا أطلّت الثورة عليها.
الآن لم يعد هناك مجال إلا للتعجيل بمطالب الشعب الشاهق سقفها، وكل ساعة تهدرها الأنظمة التي سرى الخوف في جسدها ستعود عليها بالندم، لأنه كلما ضاق المخرج كان الخروج مذلا. قال بن علي لشعبه "لقد فهمتكم".. الآن بعد عقود من انعدام الإحساس وفتح مبارك حنفية الإصلاحات في خطاباته اليائسة، قبل أن تدفعه فلول الغاضبين إلى أقصى شبه جزيرة سيناء. وقبلهما داهم الوقت لويس السادس عشر الذي انتظر حتى ليلة 14 يوليو/تموز 1789 ليُفهمه ليونكور أن الصخب الذي يلامس مسامعه الملكية الناعمة ليس تمردا، وإنما الثورة التي قضت على حكمه.
المصدر : الجزيرة