"أن تشعل شمعة في الظلام خير ألف مرة من أن تلعن الظلام"، هذا ما تقوله الحكمة المتداولة بين مختلف الأجناس البشرية، وأجزم القول أن الظلام المقصود هنا ليس بالضرورة أن يكون ذلك الذي يخيم عندما يحل المساء، فظلام الحياة الذي ولّده بعض الحكام كنتيجة حتمية لممارسة وامتهان واستمراء ظُلْمهم لشعوبهم هو أشد وطأة، لأنه يحول الحياة إلى جحيم لا يُطاق، والقدرة على تحمله والاستمرار تحت ظله دون مقاومة أمر مستحيل، وهو ما يجبر الناس إلى إتباع خيارات وطرق بغية الخروج من هذا الواقع الأليم والمرير، منها الرحيل ومغادرة البلد، أو الاستسلام والصبر (مؤقتاً).
أما الطريقة الأكثر حداثة والتي من المفترض أن تنحني أمامها الهامات وتُرفع لها القبعات، فهي طريقة الشهيد "محمد البوعزيزي"، الذي نذر نفسه وأشعل النار في جسده، ليكون بمثابة الشمعة الأولى التي أُحْرِقَت لتنير طريق الملايين من أبناء الشعوب العربية، شمعة "البوعزيزي" كانت بحق الفنار الذي تهتدي الشعوب على ضوئه للبحث عن مرافئ الأمان والحرية والعدل والكرامة بعد سنين من التسلط الأسري وأعوانهم في أنظمة الحكم الاستبدادية، التي تدَّعي زوراً وبهتاناً الديمقراطية والتنمية، بينما هي في الأصل حوَّلت شعوبها إلى مجرد قطعان وعبيد لا يحق لهم التفكير، بل التنفيذ دونما سؤال حتى في الخفاء.
ها هي ثورات الشعوب العربية تهب رياحها المحملة بعناوين التغيير وبذور الحرية الحقيقية في كل دولة لتجيب على الأسئلة، التي طرحها الشهيد "البوعزيزي" قبل أن يضرم النار في جسده الطاهر، بعد أن طفح الكيل، واستبد الضيق، وازداد الشعور بأن كابوساً ثقيلاً يجثم على الصدور ويكبّل الروح، بل إن الحياة أصبحت مرة المذاق، نتجرعها رغم أنوفنا، بل أصبحنا تائهين في بيداء موحشة بلا دليل، والحياة ألعن من الموت، فيها الجميع ضائع يبحث عن شيء أصيل يتمسك به، يبحث عن ذاته، أسئلة "البوعزيزي" كانت إلى متى نرضخ لهذا الذل ونرضى بذلك الهوان، وهل من الضروري أن نقيد أنفسنا بالسلاسل والأغلال حتى يرضى عنا حكامنا؟.
اليوم، وبعد سقوط أنظمة، وأخرى تنتظر المصير المحتوم، نشعر أن الابتسامة بزغت على شفاه الملايين، ونَفَضَ المعذَّبون عن كواهلهم أعباء الأسى والخوف، ورفع المصلون أياديهم يشكرون الله لانتصار إرادته وقضائه الذي لا رادَّ له، ومع هكذا أحداث لابد من الإشارة أنه قد حصل تزاوجاً بين الحكمة والحماس، تجلى فيما رأيناه ونراه، الحكمة التي منحها الخالق لمن شاء من عباده، قال تعالى: "يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا"، والحماس الذي فتَّق عقول الشباب.. فيحاكون من خلاله مَنْ سَبَقَهم من الأجيال ليقولون لهم: إنه لا شيء مستحيل أمام الإرادة والعزيمة والإصرار.
عمر محمد بن حليس
شمعة البوعزيزي 2019