ما أسهل الصراخ والزعيق والشتيمة وتبادل الاتهامات سواء بالكتابة الصحافية أو عبر شاشات الفضائيات.. لا أنا أحتكر الوطنية ولا أنت تفتقدها فكلنا وطنيون.. لا أنا أحتكر الحقيقية ولا أنت تفتقدها فكلنا يبحث عن الحقيقة بالمعلومة والرقم والوثيقة والصورة، وليس بالصراخ والتخوين!.
لا أنا أحتكر المعرفة ولا أنت تحتكر الجهل، فأنا لا أعرف الكثير وأنت تعرف الكثير.. أن تكون معارضاً فهذا حقك، وأن أكون مؤيداً فهذا حقي.
لكن تعالوا نتعلم فن الاختلاف بأدب وأخلاق، فالحوار بغير أدب أو أخلاق، إنما هو وصلة ردح وبذاءات لن تفيد أحداً، البذاءة ليست شجاعة، كما أن "التطاول" ليس حكمة، و"طول" اللسان ليس بطولة.
انتابتني الحيرة والدهشة عندما شاهدت أحد الزملاء في إحدى الفضائيات وهو يتحدث بحكمة ورزانة عن أن مثله الأعلى -هو الكاتب الصحفي "أحمد بهاء الدين"- وهو قدوة في فن الكتابة الراقية المحترمة، وبعد عدة دقائق ينسى "الزميل"، حكاية "أحمد بهاء الدين"، ويبدأ في الصراخ والزعيق مهاجماً الضيف الآخر: أنت عميل! فيرد عليه: أنت خائن! فيباغته: أنت تقبض من أميركا، فيرد عليه: وأنت تقبض من روسيا! فيقول: أنت متآمر على ثوابت الوطن والأمة والوحدة.. أنت انفصالي فيرد عليه: ثوابت الأمة لا تتشرف بأمثالك والانفصالي هو أنت ومن هم على شاكلتك و و و.
أما المذيع .. فيا للفرحة والسعادة التي تبدو على ملامحه مما يراه ويسمعه من وصلة "مقطع" ردح يتبادلها اثنان من نخبتنا، بل "نكبتنا" على الهواء مباشرة، ثم يقول المذيع ببراءة: أعزائي المشاهدين فاصل ونواصل.. انتظرونا!.
وينسى هذا الزميل الفاضل أن "أحمد بهاء الدين" هو نفسه القائل: "أتمنى لو أن تعلمنا –جميعاً- أدب الحوار وعدم الإسفاف والابتذال، وجميعاً أقصد بها هنا كتاب الصحف".
ولكن بعض المطالبين بحرية الصحافة يتصورون حريتهم دون الآخرين، ويفزعم إعطاء حرية الكتابة للجميع.. وحين يكتب الصحافي يجب أن يتوقع التأييد والمعارضة، لكن متى نتعلم جميعاً الجدل والحوار بغير لغة "الطوب والحجارة"، خصوصاً ممن بيوتهم من زجاج، ولدينا والحمد لله كميات هائلة من الطوب والحجارة للرد عند اللزوم، ولكني أؤمن بحكمة أن يبدأ الإنسان بنفسه، وبالتالي ألا ينزل عند أول هجوم بـ"قاذفات القاذورات" إلى الرد بالمثل.
ولا أظن على أي حال أن قواميس الإسفاف والبذاءة تجذب القراء بعد أن تعلموا لطول ما حاولت أن تحتقر عقولهم، ولغة الكتابة غير لغة السوق والحواري.، وإذا كنا ليلاً ونهاراً نتحدث عن "حقوق الإنسان" – دون أن نتذكر واجباته- فلماذا لا نتكلم قليلاً –ولو ما باب الواجب والمزايدة- عن حقوق القارئ وحقوق المشاهد؟.
نعم، حقوق القارئ أن يقرأ خبراً صادقاً ومقالاً محترماً وتحليلاً أمنياً، باختصار نقدم له ما يفيده!، وحقوق المشاهد أن يشاهد برنامجاً يتحاور فيه الضيوف بالعقل لا بالصراخ، بالمنطق لا بالذراع، بالأدب لا بالشتيمة!.
من يحمينا من هذا الزيف والصراخ والبذاءات التي تنهال علينا باسم الحرية وحقوق الإنسان؟! كيف يصدقنا الناس –قارئاً أو مشاهداً- عندما نهاجم الأكاذيب ثم يكتشفون كذبنا؟، - ليل نهار- نتكلم عن الآخر وضرورة احترام الآخرـ وأهمية الاستماع إلى الآخر، وأن الحياة لا تستقيم بغير وجود الآخر.
وحتى الآن لا أعرف ما هو المقصود بهذا الآخر.. من هو هذا الآخر الذي نتحدث عنه ليلاً ونهاراً؟، إن أخطر ما نعاني منه عل كافة المستويات هو غياب قيمة التسامح وحضور قيمة جاهلية مؤداها "من ليس معي فهو ضدي"، من لا يؤيدني ويساندني ويقف بجواري، فهو عدوي وإلى الأبد!، المهم أن تتبنى الرأي الذي أعتنقه، والفكرة التي أتحمس لها، والنادي الذي أشجعه، والمطرب الذي يطربني، ولا يهم شيء بعد ذلك.
محمد الحيمدي
فن الاختلاف .... 1616