في الوقتِ الذي ارتقى فيه الصّنمُ، خلال وجوده التاريخيِّ، إلى مرتبةِ الحامي للذّواتِ ممّا يتهدَّدُها من قَلقٍ وجوديٍّ والعاصمِ لها من الأسئلةِ الكونيّةِ المعتاصةِ عن الفهمِ، كان يحملُ مجموعةً من رغائبِ الإنسانِ في أن يصنع له "ذاتًا" متعاليةً قويّةً يُداري بها ضعفَه البشريَّ ويهرعُ إليها في أوقاتِ دهشتِه من مظاهر العجيبِ الأرضيِّ وهول انصبابِ عُنفِ الطبيعةِ عليه.
وهو ما وهبَ الصَّنَمَ وظيفةً ماديّةً انضافت إلى وظيفته التخييليّةِ ومنحتْه بأسًا رمزيًّا احتاجَ إلى تدخُّلٍ إلاهيٍّ وفطنةٍ فكريّةٍ من بعضِ الرُّسلِ لكيْ يفقدَ هيبَتَه ويتصاغرَ أمامَ تعاظم الوعيِ الإنساني بعناصر الكونِ وطبيعةِ علائقِها البينيّةِ.
***
ولأنّ "الصّنَمَ" كائنٌ مُخاتلٌ، ما إن يتخفَّى حتى يظهرَ ويتلوّنُ بألوانِ الطيفِ، فلا يُحاصَرُ في دَلالاتِه ولا يُسجنُ في فَهمٍ مُفْرَدٍ، فقد التجأتْ إليه الأنظمةُ السياسيّةُ العربيّةُ وِعاءً فكريًّا لتصنيعِ زعاماتِها وتبييضِ سجلاّتِ قياداتِها والترفيعِ في أسْهُمِها الاجتماعيّةِ والسياسيّةِ حتى تفتكَّ مشروعيةَ برامِجها الاستحواذيّةِ الشموليّةِ وتؤسِّسَ لشرعيتِها الحاكمةِ عبر اصطناعِ أوضاعٍ اجتماعيّة مليئةِ بالفوضى وبالخوفِ وبالفقرِ تُفْرِغُ الإنسانَ من يقينياتِه الذاتيةِ وتشلُّ طاقاتِه على الفاعليةِ الاجتماعيّةِ ومن ثمةَ تُعلِنُ ثوراتٍ وهميةً وانقلاباتٍ بيضاءَ وعُروشًا خاويةً وتُجبِرُ الشعوبَ على قَبولِها هربًا من تفاقمِ أزماتِها وتنامي الخوفِ فيها.
فكان التوريثُ المَلَكيُّ في دولِ الخليجِ، وكانتْ محاولةُ التوريثِ الجمهوريِّ في مصرَ بعد أنّ تمَّ ذلك في سوريا، وكان انقلاب بن علي في تونس والبشير في السودان وعلي عبد الله صالح في اليمن، وكان انفراد جنرالات العسكر بالمؤسّسة الحاكمة في الجزائر تحت راية مكافحة الإرهابِ، وسُبِقَ كلّ ذلك بثورة العقيد القذّافي في ليبيا.
***
وفي جميع هذه البلدان، كانت الأنظمةُ الحاكمةُ تصنعُ بالقُوّةِ زعماءَها وتبني لهم مجدًا تخييليًّا من أمجادِ الشعوبِ المحكومةِ وتوفِّرُ لهم جميعَ شروطِ الظهورِ مظهرَ القيادة والرَّمزِ على حسابِ إفراغِ ذواتِ الناسِ من قِيَمِهم وهُوِيَّاتِهم وأحلامهم.
وهو أمرٌ خلقَ هُوّةً عميقةً بين الحاكم والمحكومِ تجلّت مظاهرُها في كثرةِ تفقير الشعب لفائدة الزعيم، وإلجامِ فكرِ الجمهورِ للإشادةِ بأفكارِ القائدِ، واستغلالِ خيراتِ الأوطانِ لتلميعِ صنمِ الحاكمِ والارتقاءِ به إلى مرتبةِ إلاهيّةٍ.
ولكنّ زعماءَنا العربَ، إذْ بالغوا في صَنَميّةِ وجودِهم، أهملوا حقيقَةً تاريخيّةً تقولُ إنّ نهايةَ كلّ صنمٍ أن يتعرّضَ للانتهاكِ والتحقيرِ والتهديم والرميِ في مزبلةِ التاريخِ. ولعلَّ سقوط أصنامٍ مثل بن علي ومبارك والقذّافي سيزيد من شهيّةِ الشعوبِ العربية إلى تهديمِ أصنامهم حجرًا حجرًا.
العرب أونلاين