مهما حاول الكاتب- أي كاتب- أن يهرب من مواجهة الواقع بتحدياته وإفرازاته المثيرة للقلق، فإن كل شيء حوله يشده بقوة إلى هذا الواقع، ويجعله على تواصل دائم معه، فقد مضى زمن العزلة الجميل وما كان يعطى لبعض المبدعين من مساحة تكبر أو تصغر للتأمل والتفكير الهادئ، وجاء زمن آخر نجحت فيه المدنية الحديثة في أن تغزو كوكب الأرض بما عليه ومن عليه، ولم تترك زاوية في هذه المعمورة يمكن للإنسان أن يأوي إليها بأفكاره وأحلامه الخاصة، ولكي يكون في منأى عن متابعة الأحداث التي تكتسح العالم بصورة متسارعة جداً وبأساليب غير مألوفة ولا معهودة، وبذلك صارت رغبة كل من يريد أن يعتزل محيطه المحلي أو الكوني مستحيلة وبعيدة المنال، وغدا الأموات وحدهم، هم القادرون على أن يعيشوا عزلتهم الهانئة في هدوء وأمان.
ولعل أول ما يلفت الانتباه ويدعو إلى الالتصاق بالواقع أكثر من أي وقت، هي تلك التناقضات البالغة الخطورة والمتمثلة في الفوارق الفاحشة بين المجتمعات الغنية والفقيرة، (الشمال، الرأسمالي في طابعه العولمي الوحشي، والجنوب الفقير) بين مجتمعات الرفاه الباذخ ومجتمعات الفقر المدقع.
وفي لحظة كتابة هذه الكلمات كانت مشاعري مركزة على خبرين اثنين في صحيفة واحدة، الخبر الأول يقول: إن شاباً في إحدى الدول العربية انتحر مع أفراد أسرته لأنه لم يجد ما ينفق به عليهم، وهو لم يكن الأول وقد لا يكون الأخير. أما الخبر الآخر فهو: إن لوحة للفنان الإسباني الشهير بيكاسو قد بيعت بأربعين مليون دولار، وإن أحد الأثرياء هو الذي اشتراها بهذا الثمن العالي ليعلقها في جدار غرفة نومه.. هكذا إنسان ينتحر لأنه لم يجد الخبز، وآخر يشتري صورة بهذا المبلغ المهول!
أليس في هذا التناقض المخيف ما يبعث على ما هو أكبر من القلق وأشد من الخوف؟ ثم، ألم يكن في الإمكان إيجاد حالة من التوازن الكوني يتوفر معه الرغيف للمنتحر والمتعة الفنية لمقتني اللوحة؟ أليس هناك من وسيلة تضع حداً للسباق المحموم بين الأغنياء نحو تراكم الأموال، والزحف البطيء الذي يقوم به الفقراء للحصول على الحد الأدنى من مستوى المعيشة اللائق بالآدميين؟ وهل يستطيع أصحاب المليارات المجمدة في البنوك والسائلة في المشاريع أن يأكلوا باطمئنان ويناموا باطمئنان في عالم قائم على هذا النوع من التناقضات والمفارقات المذهلة؟
أسئلة كثيرة قد يرى بعض المتخمين أن فيها ما يدخل في باب المبالغة، ولكن الإجابة عنها تتحول في كثير من مناطق العالم إلى قنابل مسيلة للدموع وإلى رصاص يخترق الجماجم ويخدش ضمير العالم.
ولا ينبغي أن نتوقف عند بعض الأحداث التي تعصف بالأرض العربية وحدها، وإنما الواجب والإنصاف يدعونا إلى أن نلقي نظرة أيضاً على أحداث مماثلة تكاد تعصف بالعالم أجمع، فالتناقضات الخطيرة في الدول العظمى وغير العظمى تجعلها عرضة لعواصف مماثلة، فالفوارق هناك تبدو أخطر بما لا يقاس من الفوارق التي تشهدها الدول النامية التي لا أتردد في وصف أزمتها بأنها اقتصادية بالدرجة الأولى، لم تحسن القيادات حلها في حدود الإمكانات المتوفرة فتحولت بالفعل إلى أزمات سياسية واجتماعية طاحنة. ولا يخالجني شك في أن الحلول الجذرية لهذه الأزمات تكمن في إصلاح الاقتصاد (تنمية بشرية إنسانية) وفي استخدام الثروات الوطنية مهما كانت نسبتها لصالح الناس بدلاً عن الجشع والاحتكار والفساد، هذا الثالوث الذي من شأنه أن يدمر الشعوب ويجعل عاليها سافلها وفي أقصر وقت من الزمن.
أخيراً، لا شيء يمكن إضافته إلى حكمة الإمام علي بن أبي طالب، عليه السلام وكرم الله وجهه، التي تقرن الفقر بالكفر، وليس من وسيلة لإنقاذ الإنسان من الاستبداد والفقر إلاَّ بتطبيق أحد مبادئ الثورة، وهو إزالة الفوارق بين الطبقات، الفوارق الاجتماعية والاقتصادية مع وضع سقف محدد للإثراء. وهو الهدف الأول من أهداف ثورة 26 سبتمبر 1962م.
تأملات شعرية:
حين لا يجد الناس خبزاً
ولا يجدون كساءً
ولا يجدون دواءً
إذن، لا يُلامون إن خرجوا شاهرين سواعدهم
أو تعالت صراخاتهم تثقب الطرقات.
بعض ما في البنوك البعيدة
والصفقات المريبة
تكفي لتمحو ما صنع الفقر في عالم الناس
تكفي لتطهير ما تشهد الأرض.
عبد العزيز المقالح
الأزمات الاقتصادية وتحولاتها إلى أزمات اجتماعية وسياسية 1949