مل بنو إسرائيل في زمن موسى عليه السلام المن والسلوى وطالبوا موسى عليه السلام بدعاء الله أن يخرج لهم مما تنبت الأرض من البقل والقثاء والثوم والعدس والبصل واستغرب موسى طلبهم وأنكر عليهم كيف يطلبون استبدال الطعام الذي يعتبر في الدرجات الدنيا بما هم عليه من المن والسلوى وهو خير وأبقى.
مثل بنو إسرائيل في هذا الوقت حاله يمكن أن نسميها حالة ترف الرغبة لدى الإنسان في التغيير حتى ولو أدى ذلك إلى استبدال الرديء والسيئ بالجيد والحسن أما الملل الذي أصاب الشعوب العربية من أنظمة الحكم، فلم يكن الملل تحت دعوى الرغبة في التغيير الترفي أو الترفيهي بقدر ما هو الرغبة في تغيير كابوس يرزح على صدور الشعوب عشرات السنين.
وبالنظر إلى مدى التحمل والقدرة على التحمل، فإن هذه الشعوب تنفرد عن بقية شعوب الدنيا بالصبر والتحمل لكابوس يطول أمده سنوات وعقوداً من الزمن وهو يشبه أو أشد من الكابوس الذي لا يستطيع تحمله الإنسان ثواني عديدة عندما يفاجئه في لحظة إرهاق، فيفزعه ويطرد نومه ويجعله يستيقظ مجهداً يتصبب عرقاً باحثاً عن شربة ماء حتى يبعد ما أصاب فمه من جفاف وحرق أعصاب.
كيف لا تمل شعوب وهي تمسي وتصبح وليس أمام ناظريها سوى هذا الكابوس الذي تحاول وسائل الإعلام تغييره في المخيلة والذاكرة مدعية أنه حلم جميل على الإنسان أن يعيش معه أحسن لحظاته ما دام موجوداً، ذاهبة بعقل الإنسان إلى أبعد درجات الاستخفاف.
ملت الشعوب من الحاكم الماجد والزعيم الملهم والعبقري المنظر، الذي يبحث في حلحلة مشاكل العالم وهو نفسه يشكل أعقد المشاكل، التي تستعصى على الحل والفهم والإدراك.
ملت الشعوب من الوزير الخالد الفاسد، وملت من المدير المتسيب المتفلت الناهب، ملت الشعوب من القضاء الجائر والقاضي الفاجر.. ثم لماذا يستكثر عليها الملل وأحدهم يطلع عليها من قرية تسمى جهنم؟، فما الذي يمكن أن يأتي من جهنم غير العذاب والحر والسعير والبرد والزمهرير، حتى وإن حاول أن يحول الحقائق بطمسها واستبدالها بالألوان من الأحمر إلى الأخضر، أو من الأسود إلى الأبيض، فإن ا لألوان تخدع البصر ولا تخدع البصيرة، التي تتعامل مع حقائق الأشياء.
ثم أليست هذه حالة تشبه حالة "المسيح الدجال" الذي يأتي وهو حامل في إحدى يديه ناراً وفي الأخرى الخضرة والنعيم، فمن تبعه أدخله جنته، التي يجدها ناراً حال دخولها، ومن عصاه وقاومه قذفه في النار، التي على يده الأخرى ويدخلها المؤمن الثابت، فيجدها جنة ونعيماً.
ملت الشعوب من الترهات والسخافات والضحك على ذقون أبنائها والاستخفاف بعقولهم والإصرار على استمرار الإساءة إليهم والتنكيل بهم.
ملت الشعوب المواعيد الكاذبة والمشاريع الفاشلة المهملة والمهلهلة والبخسة.. وهي تجني اليوم حصاد زرع السنين، ذلك الزرع الذي نبت في تربة وبيئة فاسدة وسقي بماء أكثر فساداً وتلويثاً، ويقدم نموذجه للزعيم العقيد العتيد ملوثاً بأفعاله تاريخ المجاهد العظيم "عمر المختار" بذبح وقتل أحفاده على أرض الأحرار والمجاهدين الذين سطروا أروع ملاحم الجهاد والكفاح في مقاومة الاستعمار الفاشي برصيد يتجاوز "130" مليار دولار يمتلكها قائد الثورة وأبناؤه ولاة العهد وأمراء الجماهيرية.
ملت الشعوب من قادة الثورة الذين تثقل أرصدتهم خزائن البنوك في أميركا وأوروبا وشعوبهم تتضور جوعاً وتموت بؤساً وكبتاً وحرماناً.
ملت الشعوب بعد أن استوطن الكثيرون من أبنائها المقادير حين ضاقت عليهم الأرض بما رحبت حاسدين من هم في القبور على سكنهم واستقرارهم تحت الأجداث، معتبرين أنهم في راحة ربما لأنهم لم يشهدوا الزمن الذي يعيش فيه الأحياء بما هو عليه من عجائب وتقلبات وأهوال وتزييف وباطل.
ملت الشعوب وحق لها أن تمل، ملت الشعوب حتى أعياها الملل وأفقدها الخلاص والأمل، فهل يدركون لماذا ملت الشعوب ولماذا كل هذا الملل؟!.