هل يوجد لدينا شارعاً سياسياً في اليمن؟، هل هناك حركة مجتمع مدني واثب وناهض.. أو حتى متثائب في اليمن؟.. شارع يخوض معترك التغيير والتحديث ويعد المجتمع للمستقبل على حساب قيم الماضي وتحديداً شقها المعتم الظلامي؟، يسند طول وقامة قوى التجديد أمام هجمة القوة المحافظة والموروث "القروسطي" البائس؟.
إنها أسئلة.. ما انفكت تتسع دوائرها وتتكاثر تحت سطح الواقع السياسي غير المرئي.. وليس هناك من محاولة لتفكيك حلقات الأسئلة وطرق مغاليق الإجابة دون أن تقود إلى حالة من القنوط.. ومراجعة الحسابات بشأن جدوى عاطفية الرهان المجرد على حسم إشكالية التطور لصالح الغد.. مع هذه المؤشرات القاتمة وفي ظل غياب واندحار الومضات المضيئة المرسلة من دعاة المدنية والتحديث والتغيير في اليمن ورفعهم ما يشبه الرايات البيضاء ورمي أسلحة المواجهة تحت أقدام مؤسسة القديم.
هذه الضبابية التي تسود هيئات ومكونات المجتمع المدني، بل وكامل منظومة العمل السياسي والديمقراطي.. تعمق لدى البعض حالة الحيرة والتشوش.. في مدى صلاحية بذر هذه الأفكار في تربة كل ما فيها مشدود الفكر والقوى إلى الماضي.. حيث الكيانات مادون الوطنية.. وانتماءات ما قبل الدولة.. والانعزال في مربع القبيلة وخيمة شيخها والإقامة الجبرية في رأسه.. والدفاع عن الماضي كقيمة بديلة عن التغيير الإيجابي المواكب لنبض وروحية وانفتاح العصر.
وحين تعجز قوى المجتمع المدني عن الوصول إلى الناس.. وفك حروز وتمائم الثقافة والسائدة الموغلة في القدم.. من على معصم وذهن كل مواطن.. وحين تخور قواها وتتراجع حثيثة الخطى عن طروحاتها وتخلي الساحة للآخر الماضوي المتخلف.. حين يحدث كل هذا في مجتمع تتكاثر في المنظمات غير الحكومية.. والحقوقية والمهنية والسياسية.. فإن في الأمر خللاً يستحق إثارة كل هذا الكم من الأسئلة.. وإن في الأمر اختلالاً لا يقل خطورة عن سابقه يوجب على جميع الباحثين والمشتغلين في حقل العلوم الاجتماعية، والراصدين للظواهر السياسية والإنسانية والسلوكية.. تسليط بعض الضوء الكاشف، عم يحصل في قاع المجتمع وبين أوساط نخبة وبناه الفوقية؟.
ألم يكن مثل هكذا سؤال أكثر إغراء وإغواء لأي من الباحثين للخوض في غماره وإزالة الغموض عنه خباياه.. وتقديم دراسة عن أسباب كل هذا التكوم والانكفاء لعناصر الجديد.. ولماذا سرعان ما تتهالك ويخبو صوت تلك المؤسسات المستقلة التي غطت في مرحلة الخصب "1990-1993" مساحة واسعة من اهتمام وتتبع المجتمع بمثقفيه وسياسييه وبسطائه، لهذا النموذج السلمي الجديد على الوعي والثقافة اليمنية.. عن الأفاق المفتوحة والفضاءات المؤمل له ارتيادها.. عن المدى المسموح فيه هذا التخطي وهذا الارتياد من يصطف إلى جانب هذا الجنين الذي ولد بذراع وأسنان ولكنه سرعان ما تم ليّ هذه الذراع وانتزعت أسنانه وكتمت أنفساه أو كادت أن تكتم ولإزالة محاولة إخماد النفس قامة في كل حين وعلى كل شكل ولون.
بين تباشير ميلاد نواة المجتمع المدني مع مطلع التسعينات عقب الوحدة.. وتقويض بُنى ودعائم هذا الميلاد عقب وائدو كسر الوحدة والنيل من سلميتها، في هذه المنطقة المظللة تشتعل الأسئلة.. وبين عهدين تفصل بينهما سنوات ثلاث.. تتجلى جمالية وبهاء الموقف المؤازر لهذه الكيانات والتنظيمات المدنية في الفترة من 1990-1993م ثم انطفائها بعد حرب 1994م المشؤومة القذرة.. أو محاولة محاصرتها في نطاق سياسي وحقوقي تختاره السلطة.. ولا يملا عليها من قبل طلائع المجتمع.
هذه المساحة الشاغرة بين ميلاد دولة موحدة مشروطة بضمان التعدد والتنوع، واحترام حق المجتمع في تنظيم نفسه في هيئات ومنظمات مدنية غير حكومية.. وبين إجهاض مسيرة الوحدة بالحرب وبالتالي تراجع وتأثر نشاط هذه التكوينات الجنينية إلى أدنى مستوى لها.. هذه المساحة والتي شهدت تفتح وازدهار الوعي الجديد والثقافة البديلة.. ومن ثم ذبولها أو انكماشها في فترات لاحقة، لسنوات معدودة وما إذ كان هذا المدى المتاح أمام تلك المنظمات ولنوايا مبيتة، مسكوت عنه من قبل النظام انتظاراً لخيارات حربية بديلة تعززت لديه؟!.. وإن هامش هذا التبرعم الحقوقي والوعي المدني، سيظل مشروط بنقلات تأتي لاحقاً وتباعاً، بل أنها فعلاً قد أتت وانسلت، نراها قد بدأت بصناعة الأزمات وهندسة الحروب وإثارة الفتن الطائفية والنعرات القبلية والنزوع إلى توريث وتأبيد الحكم.. إلى حسم هذا "اللغط" الديمقراطي والجدل السياسي كنتيجة طبيعية، مكملة لـ"هزيمة" مشاريع التحديث، ومن تكسير أدوات ووسائل قوتها.. إلى تضييق هامش حرية الرأي.. ومن تفكيك وتفريخ وإفساد المنظمات غير الحكومية إلى تخريبها واختراقها وتقويض دعائمها.
alhaimdi@gmail.com
محمد الحيمدي
لماذا كل هذا الخوف.. لماذا كل هذا الانكفاء؟! 1449