"الثقافة".. ما أن يُذكر هذا الاسم إلا وتقفز إلى الذهن والقلب والروح والعيون والوجود كله معان شتى.. عميقة الدلالة، باذخة الزهو، شديدة الارتباط بالفرد والمجتمع، بماضيه وحاضره ومستقبله.. بمختلف ثوابته
وأبعاده العقائدية والتراثية والإنسانية والمعرفية والحضارية والتاريخية وبالتالي فإن أي شعب عل وجه المعمورة يحترم نفسه ولديه مشروع نهوض أيضاً ورغبة وإيمان في تعزيز وتنمية مفاهيم وسلوكيات الإبداع والانتماء لدى الفرد،
للغته وأمته وتاريخه ومتطلبات العصر فإنه يهتم بالثقافة كمنظومة متكاملة، سواء المتعلقة باكتشاف وتنمية المواهب الإبداعية أو الطباعة والترجمة أو البنى التحتية والاهتمام بالمواقع الأثرية وكنوزها الثمينة أو نشر المكتبات وصيانة
كرامة ألم وواقع وحياة المثقفين والأدباء والكتاب والمفكرين والباحثين والخبراء والأثريين وغيرهم..
في الواقع لا أريد الخوض كثيراً في موضوع الثقافة وتفاصيلها وما يمكن أن تقدمه للبلد وللأمن وللوحدة الثقافية والفكرية وللتواصل بين مثقفي البلد ورواده في مختلف الجوانب.. لهذا سأختصر الموضوع وأقول: ما صعقني
في هذا الأمر "الثقافة" مؤخراً هو معرفتي بأن ميزانية وزارة الثقافة، حسبما أكد لي الأستاذ/ معاذ الشهابي –مدير عام مكتب الوزارة- هي "36" مليون ريال.
اعترف بأنني لم استوعب هذا الرقم للوهلة الأولى، فعدت بعد إغماءة قصيرة وقلت للأستاذ/ الشهابي.. قصدت أن ميزانيتكم هي "3" مليار و"600" مليون ريالاً؟! صح! فقال: يا ليت حتى ربع ربع
هذا المبلغ الذي إذا ما كان متوفراً بالفعل فلن تجد مثقفاً واحداً بائساً بهذا الشكل ولن تجد أيضاً مثقفاً واحداً يشتم الثقافة ومن فيها والشعب بكل ما يعنيه والشهابي واليوم الذي أتى به هذا المكان المتواضع وكذا الوزير الإنسان الوطني
المتواضع الدكتور/ محمد المفلحي.
عموماّ عاد الأخ/ معاذ الشهابي مرة ثانية وثالثة ليؤكد لي الحقيقة الصاعقة التي تقول: إن ميزانية وزارة الثقافة السنوية لا تزيد عن "36" مليون ريال.
بالطبع إلى تلك اللحظة كنت من أول وأكثر الساخطين على الآلية والطريقة التي تدار بها هذه الوزارة وميزانيتها الكبيرة، كما كنت اعتقد.. كما أني كنت محتفظاً بكشف حساب يخصني وهو عبارة عن ديون وحقوق مستحقة لي
عند وزارة الثقافة كوني واحد من أولئك الذين يأتون إلى هذه الوزارة يشخطون ويصرخون ويبرقون ويردعون تحت قائمة وبطاقة تعريفية بها الكثير من الصفات التي يطلقها كل واحد على نفسه منها مثقف، صحفي، كاتب، باحث،
مؤلف، مؤرخ، شاعر، مفكر، روائي، قاص، طحطوح، موسوعي، فنان، مطرب، عالم، شيخ القصة الجديدة، شاعر الوطن الجريح والوحدة العظيمة والمتعبة... وإلخ.
ولعل ما شجعني كثيراً، بعد رحلة من العمر طويلة قضيتها في خدمة الثقافة والوطن تزيد عن "6" سنوات.. ما شجعني للبحث عن نصيبي وامتيازاتي من ميزانية هذه الوزارة هو أنني لم أحصل منها على أي دعم ولم تقم
بطباعة أي عمل مؤلف لي أيضاً.. أضف إلى ذلك أنني لم أسافر أي سفرية داخلية أو خارجية على نفقية الوزارة، عدا تلك التي سافرت فيها وبدعوة شخصية من الأخ/ معاذ الشهابي لي، وكصحفي في مطلع 2010م إلى
مدينة سيئون إبان إعلان تريم عاصمة للثقافة الإسلامية.
على أية حال نقول: من يقم بزيارة خاطفة لوزارة الثقافة وتحديداً مكتب الوزير ومدير مكتبه سيرثى ويشفق كثيراً عليهما، وسيدرك حينها كم حجم المعاناة التي تعصف بهما وكم يجدان أنفسهم عاجزين عن الوفاء بمتطلبات
المثقفين وعن انتشالهم وانتشال المشهد الثقافي الحالي من وضعيته الحالية التي يكفي، لمن بحث عن أسبابها أن يعرف فقط قدر ميزانية وزارة المثقفين والأثريين والفنانين والمبدعين والكتاب وغيرهم، البالغة "36" مليون ريال
في السنة.. وبالنظر إلى تلك الحالة وخلال تلك الفترة الماضية التي ترددت فيها على وزارة الثقافة وأنا أراجع موضوع مشروع طباعة كتاب لي مؤجل منذ "5" سنوات اعترف إنها المرة الأولى التي أجد فيها نفسي مشفقة
ومتعاطفة مع وزير أو موظف يمني في مركز قيادي أو تنفيذي.
أقول بالله عليكم أي ثقافة وأي تنوير وأي إبداع وأي نهوض من مثقف وفنان وشاعر وكاتب وقاص في ظل اللاهتمام بالثقافة كمؤسسة ومنظومة وراعية ومشرفة ومحركة للمشهد الثقافي برمته وليس هناك معها من مال؟! وكيف
للثقافة أن تقوم بدورها على مستوى الساحة الوطنية في جانب تعزيز مفهوم الولاء الوطني وجعل المثقف يحس فعلاً بالأمان والشبع والقدرة على الكتابة وحتى الحديث والتحرك هنا وهناك ومعدته خاوية وسكنه في كوخ أو صفيح أو
مشرد في الشوارع والمدن الثانوية والقرى؟، كيف سيدافع المثقف عن الوحدة الوطنية والثوابت والأبعاد الثقافة وكيف سيرفض ثقافة الكراهية وهو يقترض قيمة تذكرة الباص من عدن أو المكلا أو تعز أو الحديدة ويتجه إلى وزارة
الثقافة في العاصمة صنعاء ويظل يتسكع في مبناها وحوشها البائس ولا يستطيع القائمون على الوزارة، لعدم وجود مخصص واعتماد مادي، أن يساعدوه على إقامة مشروع أو المشاركة في مهرجان ما أو طباعة عمل ما أو
المساعدة بمبلغ مادي ما يمكن أن يعيد له الأمل ويجعله يقاوم إحساس اليأس والفناء واللاجدوى من الحياة والصبر والعطاء والعمل الإبداعي والفكري الذي ينتجه؟!.
ثم كيف سيكون إحساس وشعور ونفسية أفراد قبيلة "شريحة المثقفين" إذا ما علموا بأن اعتماد مصلحة شئون القبائل في بلادنا قبل خمس سنوات -لأنها الآن ربما قد زادت الضعف- كانت "5" مليارات ريال بينما
اعتماد وزارة الثقافة "36" مليون ريال ومركز البحوث "200" مليون ريال؟!.
ختاماً شكراً لمن قرأ هذا التعب أو البقية في حياة الموتى يأساً وشفى الله وأعان من بقي فيه رمقاً من أسرة الثقافة وشريحة المثقفين والأثريين والباحثين والشعراء والكتاب والروائيين والأدباء عموماً.. كذلك البقية في حياة أي
شعب وأمة كشعبنا تنطبق عليه المقولة التالية: "إذا فقدت أمة أدبائها وروائيها ومثقفيها.. فهذا يعني أنها فقدت ذاكرة أحلامها وتطلعاتها ونهضتها".
عبد الكريم المدي
الثقافة.. مابين سندان الدور الوطني والموازنة المخجلة! 2137