"ارض بما ليس منه بد" قالها اليونان في فترة لم يعرف الناس فيها القلق ، ويقول "وليم جيمس" أحد الفلاسفة الكبار :
“ استعد دوماً لتقبل الأمر الواقع الذي ليس منه مناص لأنك بهذا العمل تكون قد خطوت أول خطوة في التغلب على مرارته وصعوبته .. ويقول “ الزى ماكورميك “ : ( عندما نهدئ من روعنا من النقمة على ما ليس منه بد ونرضى بما هو واقعي ينطلق بعد ذلك نشاطنا ويغدو باستطاعتنا خلق حياة أفضل مليئة بالسعادة ) .
ويقول “ إيمرسون “ إن التشبه بالغير انتحار للشخصية ذاتها ، وعلى المرء أن يتقبل نفسه على علاتها ويرضى بها كما قسمها الله له.. وتأملوا معي ما قاله القرآن الكريم منذ أربعة عشر قرنا .. فمن وصايا القرآن الكريم ما جاء في الآية ( 102) من سورة النساء .
قال تعالى « ولا تتمنوا مافضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما » صدق الله العظيم
ولنا أن نعرف الآن مدى العمق الذي هدف إليه دعاء الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عندما قال : ( اللهم لاتذهب قلبي إلى شيء صرفته عني ).. فالآية الكريمة ودعاء الرسول الكريم فيهما توضيح وتوجيه ووصفة ناجعة سريعة المفعول وقابلة للتطبيق في كل لحظة لكل من يرى حياته لم تسر معه بصورة تدعو إلى الغبطة والارتياح.. إنها وصفة تريح النفس وتروّح عنها وتذيب الهم وتذهبه .. وهي .. الرضا بما قسم الله وعدم الانشغال في شيء لم يقدر فمن انشغل بما لم يقدر له وتهاون في ماقدر له فقد عطل طاقاته و أتعب نفسه وشغل وحال بينه وبين أداء ما عليه ، وشيء لم يقدر للإنسان لن يقدر عليه مهما طال عمره ومهما كانت قوته ومهما عظم شأنه .
ولو تعمقت في دراسة الأعمال البطولية التي حققها بعض علماء التاريخ لوجدت أن الواقع إليها مجرد نقائص كانت تكمن في نفسيات أصحابها ثم نالوا ثمرتها بعد كفاح طويل ومرير – لأنهم رضوا بما ليس منه بد – فإن ما نملكه من قوى داخلية نابعة من الذات كفيلة بأن تنصرنا على كثير من الماسي والكوارث – هذا لو استطعنا استخدام هذه القوى .. وإلى جانب الرضا بما لابد منه على المرء أن يتقبل نفسه كما قسمها الله له .. وأن يعلم أنه مستقل بذاته متفرد بسماته وصفاته الخاصة وأنه يمتلك قوى كثيرة ومتعددة لكنه لايتذكرها أو يفشل في استعمالها فعليه أن يتعرف على نفسه ولايتشبه بغيره لأن التشبه بالغير انتحار للشخصية ذاتها .
وليس أشقى من الإنسان الذي يود أن يكون إنساناً آخر غير الذي يؤهله له كيانه الجسدي والفكري
والإنسان عندما يصل إلى حالة الشعور بالنقص أو الانكسار النفسي فإنه يصل إلى درجة الشعور بالاستحالة التي تقضي على كل محاولة للابتكار والإبداع وتشل كل نشاط – والذي تمرس على رثاء نفسه وقضى حياته في بكاء ونحيب ومطالبة الآخرين بالاهتمام به سيصيبه يأس مقيت يحوّل حياته الصافية الهانئة إلى حياة غير سعيدة .. فالذبابة مثلاً ـ هذه الحشرة التي يراها الكثير من الناس شيئاً تافهاً ـ رضيت بما ليس منه بد ولم تسع لتقليد النحلة ولم تشغل بالها بالتفكير في كيفية صنع العسل لأنها تعلم أنها لن تستطيع ذلك أبداً ولم تسع لتقليد أحد – لأنها لاتنتقص ذاتها – بل إنها تعلم أن لديها القدرة على تغيير موازين التاريخ بأكمله فباستطاعتها أن تنقل الكوليرا إلى جيش وتكسب المعركة لطرف آخر ..
وهذه الرغبة في التقليد وعدم الرضا عن النفس سائدة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية وهي من أهم أسباب إخفاقهم وعجزهم عن الخروج من بوتقة العجز الإنساني والفكري والاقتصادي والسياسي ، وخيم الركود على أمتنا العربية والإسلامية لأننا نقلد كل ما هو غربي ونحاكيه.. فعجزنا عن أي إبداع في أي مجال ، ولم نعد سوى تابعين مقلدين فكان مردود ذلك التقليد الأعمى فقدان الهوية وضياع الذات وتعطيل الطاقات .. وإذا قرأنا التاريخ العريق سنجد بعض الايجابيات الصالحة للإنسانية والحياة البشرية .
وكما أن للحمقى حكمة فإن للحيوانات حكمة أيضاً ودليل حكمتها أنها لا تشعر باليأس ولاتصاب بالقلق أو الإحباط ولاتقلد بعضها البعض فكل حيوان يقدس ذاته ويحترمها ويرضى بما لابد منه، ولذلك لم نسمع عن حالة انتحار واحدة في المجتمع الحيواني إلا ما ندر وكان لذلك الانتحار حالة خاصة .. كحالة انتحار حصان "الزعتري" التي كان سببها حزن الحصان الشديد لموت صاحبه "الزعتري" ولم نسمع أو نقرأ عن حمار عشق بقرة وتمنى لو كان ثوراً حتى يستطيع الزواج بها – أو أفقده ذلك العشق القدرة على حمل الأسفار ولم نسمع عن أي بقرة تتطلع لنيل ما تناله أخواتها في الهند من التقدير والإلوهية – ولم تطالب بمساواتها بالثور فقدست ذاتها ولم تشغل نفسها بما ليس منه بد ، وواصلت عملها وأمدتنا بالحليب والزبدة والسمن .
فكن أنت قارئي العزيز وأرضى بما ليس منه تسعد وعليك بدعاء الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : «اللهم لا تذهب قلبي إلى شيء صرفته عني».
مع تحياتي أنا أحلام القبيلي
alkabily@hotmail.com
أحلام القبيلي
ارض بما ليس منه بد !! 3770