نفعل في الظلام دائماً مالا نفعله في النور، ففي الظلام تنام إنسانيتنا تماماً وتستيقظ جوارحنا الحيوانية وننتقل إلى عالم الأحلام الوردية أو ربما الكوابيس السوداء القاتلة.
في النور نتعاطى الحياة كمواقف وأحداث بمنتهى التفاعل سكينة واضطراباً وحتى أدق تفاصيلها الصعبة لا تعني شيئاً طالما ونحن في الضوء نتحكم بشعاع بشريتنا أمام الآخرين وصولاً إلى علاقات اجتماعية ناجحة ولو بنسب بسيطة وفق احتياجنا لتلك العلاقات ولا يصح أو يعقل أن نفعل في النور ما نفعله في الظلام أو العكس من ذلك، وفي حالة الإصابة بالغباء العاطفي يحدث فعلاً أن تتوالى أحداث النور في الظلام، لكن لا يمكن أن تظهر أحداث الظلام في النور وعندها يجب أن نفهم فوراً أن شركاءنا في العاطفة غير قادرين على إظهار مواقفهم الكاملة منها هروباً من أعباء المحيط والذات وعندها فقط يجب علينا أن نحزم الأمتعة ونحدد الوجهة ونختار الرحيل كحل نهائي للتخلص من وهم واقعي عشناه مع أشخاص لا يملكون أدوات التغيير الطبيعية إلا عبر أفواههم وهم يلجأون باستمرار إلى صنع أسبابهم الخاصة التي تحمل ماركة متعثرة لم تكن راقية بما يكفي لتقنعنا بأهميتها.
ومهما بدا رحيلنا صعباً إلا أنه سيكون أسهل بكثير من أن نعيش تفاصيل اللحظات الصعبة حين يكون شركاؤنا عارين تماماً من إنسانيتهم.. وكما يتعاقب الليل والنهار ويتعاقب النور والظلام تتعاقب على قلوبنا مواسم الحب مثل الفصول الأربعة فيهم الجفاف حيناً وتهطل أمطار الحب حيناً آخر، تزهر أرواحنا أياماً لتذبل أياماً أخرى، وهكذا حتى نعود أجنّة كباراً في رحم الأرض.
في الظلام تتعالى رغباتنا في السمو والإنطفاء معاً، ترقد أمنياتنا تحت غطاء التماهي المعصوم من شهوة الخطأ، خطأ العقيدة، خطأ التوحد مع الذات، خطأ الولوج إلى ضيافة التصوف اللامتناهي.. وكل خطأ يفضح مكنون النفس ويعري انسجامها مع الفطرة إلى درجة الإندماج الكامل فيها.
وفي النور تتضح تضاريسنا ونشعر أن لنا أجنحة من الهلام ونبدو في عيون أنفسنا أثيراً، لكن في عيون الآخرين لا نتجاوز قاماتٍ بشرية تقزمت على أعتاب البقاء أو الرحيل أمام أبوابٍ مصفدة من اللاوجودية والوجودية معاً في مزيج من ماء الحياة وطينها، ذروها ونيرانها، أزليتها وسرمديتها، إلى أن نستطيع بكل ما أوتينا من قوة أن نبقى منتهى الآدمية ضمن هذا القالب البشري المتطور مضموناً إلى العلوية والارتقاء.
في الظلام نظهر كقناديل معلقة على كوة القدر، قد نأفل ونبزغ لكننا نبقى قناديلاً ما دام الظلام يحيطنا بذراعيه الغامضتين ويطعم أفواهنا حبات النجوم الغارقة بماء السماء ويلهث مشاعرنا بوميض اليقظة والنوم معاً.
وفي النور نبدو كمجرات مظلمة، نقاط سوداء على صفحة النهار، زخات متدفقة من التوبة والمعصية والبطش والترهبن.. قرابين على ضريح التمدد والإنكماش.. النور والظلام لغة زمان ومكان، مفردات أرواح وأجساد، عوالم ابتداءً وانقضاء، سُبل بداية ونهاية، النور هو آخر خطوة من خطوات الظلام، بينما الظلام خطوة ما قبل النور، يتعاقبان ابتداءً وانتهاءً في منظومة كون واسعة ضمن ليلٍ ونهار يعتلي عرشيهما شمس وقمر.. يالهذه المتتالية الكونية الدقيقة التي أبقت أرواحنا وأجسادنا يانعة بالإنسانية حين نبحث عن مفردات الروح في النور لنقرأ معاني الجسد في الظلام، وهكذا حروف سامقة وأخرى متسلقة وسواها راكدة نلملمها كحبات البرد بين أيدينا تحت وابل الرحمات الهاطلة من السماء.. تصوفاً وترهباً وتعبداً وتماهياً مع لغة الكون الوحيدة التي تنسجم حروفها مع معجم الإنسانية وزناً ومعنى.. وبرغم إندثار النور في ماهية الظلام وانقضاء اجل الظلام في وجود النور إلا أنهما معنى واحد لشيئين مختلفين وشيء واحد بمعنيين مختلفين.
ألطاف الأهدل
الظلام.......!! 2360