أخيراً، أكملت مهمتها لجنة التحقيق التي شكلتها حكومة “الكيان” الصهيوني لتبرئة جنودها من الجريمة الشنعاء التي ارتكبوها في حق ضحايا قافلة الحرية . ومن المؤكد أن النتائج كانت معروفة سلفاً، وأن أحداً في هذا العالم الواسع لم يكن يظن أو يتوهم أن لجنة تحقيق يشكلها المجرم لمحاسبة نفسه في جريمة ارتكبها على مرأى ومسمع من الناس، أن تخرج بغير ما خرجت به، وأن تكون مطابقة لرغبة المجرم وما يتغيّاه من لجنة كهذه، لقد أرادها العالم لجنة تحقيق دولية محايدة تقرأ في ملف القضية وتتابع فصول الجريمة وطريقة اقتحام الجناة للسفينة، وهي ما تزال في المياه الدولية، وارتكاب المجزرة التي شهدها الناس أجمعون في الشرق كما في الغرب، في الجنوب كما في الشمال، لكن ما تمر به العدالة في العصر الأمريكي تجعل من المستحيل أن يتحقق العدل أو البعض منه .
ومن الطبيعي أن تكون نتائج لجنة التحقيق الصهيونية عند حسن ظن القتلة بها وأن تثبت براءتهم وما ارتكبوه من قتل للأبرياء الذين جاؤوا ورفاقهم لكي يتضامنوا مع شعب سجين ومحاصر فاعتبرهم الاحتلال الصهيوني جيشاً محارباً، أو على أقل تقدير اعتبرهم قوة تفضح ما يقوم به في أرض فلسطين . وليست المرة الأولى التي يشكل فيها المجرم لجنة من أفراد عصابته للتحقيق معه في جريمة تتنافى مع كل القوانين المعترف بها دولياً، فقد سبق لحكومة الكيان الصهيوني أن شكلت كثيراً من اللجان للتحقيق في جرائم الاعتداء على الشخصيات الإنسانية المسالمة التي تأتي إلى فلسطين لتعلن تعاطفها مع القضية وضحاياها، وتتعرض لمثل ما تعرض له ضحايا قافلة الحرية، وتكون نتائج التحقيق موافقة لما يريده “الكيان”، وما يحقق رغبة حكومته والمعتدين الذين لا يكتفون بضرب المتعاطفين أو احتجازهم في المخافر بل يسحقونهم بجنازير الدبابات .
إن قانون الغاب هو أهم قانون تأخذ به حكومة الكيان، ومنذ أول يوم تشكلت في أرض غير أرضها ووسط شعب جاءت لكي تسلبه أرضه وممتلكاته وقبور آبائه وأجداده، منذ ذلك اليوم وهي لا تعرف قانوناً غير ذلك القانون الذي كانت البشرية قد تخلصت منه، لا سيما بعد أن تواصلت الأرض مع السماء وتجاوز الإنسان أساليب الغاب وما كان يفرضه من أحكام تمليها الغرائز والشهوات ولا تمثل أدنى حد من العدل أو ما تقتضيه مصلحة التعايش بين البشر، وكما يبدو فإن “الكيان” الصهيوني كان وسيبقى متمسكاً بشريعة الغاب بوصفها الوسيلة الوحيدة لإطالة بقائه على أرض اغتصبها واستولى عليها في مناخ مؤامرة متعددة الأهداف والذيول، وغير مقصورة على فلسطين وحدها وإنما على كل الأرض العربية .
لقد صرخ العالم لأول مرة وبصوت واحد في مواجهة العدوان الهمجي على سفينة كانت تنقل أشتاتاً من البشر، منهم الأوروبي والآسيوي والإفريقي والأمريكي، ومنهم المسلم والمسيحي، وكان ذلك الصراخ أكبر محاولة في تعرية وحشية “الكيان” الصهيوني، لكنه كعادته، أحنى الرأس للعاصفة وأطلق أكاذيبه ووعوده في أن يتم التحقيق في موضوع المجزرة التي ارتكبها جنوده على ظهر الباخرة المسالمة، وكسباً للوقت وإسكاتاً للأصوات التي تعالت في أكثر من مكان من هذا العالم الذي يئن تحت وطأة قضايا عديدة . وبعد وقت طويل، طويل جداً، خرجت لجنة التحقيق، منذ أيام فقط، لتقول للعالم إن القتلة أبرياء وإن المقتولين هم المدانون، بعد أن جعلت من الجريمة كلها حالة دفاع (مشروع) عن “كيان” غير مشروع اعتمد القوة سلاحاً والخديعة مبدأ وقانوناً .
والسؤال الملح هو: إلى متى سيظل هذا هو حالنا وحال العالم مع هذا “الكيان” الذي بات يشكل ظاهرة بالغة الخطورة، ليس على المنطقة والأرض التي اختطفها من أهلها فحسب، وإنما على العالم أجمع بما يمثله من تحد سافر للشرعية الدولة، ومن عداء لكل معاني السلام؟
نقلاً عن الخليج الإماراتية
عبد العزيز المقالح
المجرم يحقق مع نفسه 1757