كيف كان بقدور الأنظمة العربية إخماد شوارع مدنها والسيطرة على الاحتجاجات إذا ما انتفضت الشعوب ضد المجازر الإسرائيلية في فلسطين، فيما تعجز أن تلجم الانتفاضات الشعبية في بلدانها اليوم.. ذاك ما يفسر العامل الخارجي الذي بدأ يدشن الفوضى الخلاقة بقوة في المنطقة، تمهيداً لشرق أوسط جديد يحاك على مقاس المطامع الغربية ..
كان على الأنظمة العربية أن تعي جيدا أنه مثلما دعمت أميركا وأخواتها استبدادها فإن بالمقابل بمقدورها قشعها بسهولة إذا ما أرادت ذلك..
بقي على الأنظمة المهددة بالسيل القادم من الغرب أن تدرك أنها تحتضر وأن تنفسها مستمر تحت رحمة الخارج، وبالتالي فمهما كانت تنازلاتها باتت لا ترضي السياسة الغربية المتطلعة لشرق أوسط جديد وليس أمام حكامنا العرب غير حل واحد بالمبادرة في وحدة عربية بمقدورها حل جميع مشاكل الشعوب إذا ما صارت البلدان العربية المتفرقة المهددة بالتمزيق، قوة عربية تضاهي الغطرسة الأميركية والأوروبية التي صار التقدم حليفها بقوة تحالفها، فيما نحن نغط في سبات التمزق دون أدنى محاولة لاستدراك الوضع وإحياء الثقافة القومية التي أسسها الزعيم الراحل جمال عبدالناصر..
الأنظمة العربية خذلت فلسطين والعراق والسودان بصمتها وتكميم أفواه نخبها ازاء ذلك وها قد أتى دور زعمائها طفرة واحدة ليجنون ثمن الخذلان.. لقد ضيع زعماؤنا أهداف ومصالح قومية على حساب الأخرى القطرية ولكسب رضا الخارج عن أنظمتها على حساب الوطن العربي، متناسية شعوبها، إلى ان صارت كل حلولهم الترقيعية لا ترضي الشارع العربي ولا المعارضة ولا واشنطن باتت اليوم ترضيها تلك الحلول.. كان على الزعماء العرب ابان اشعال الغرب لفتيل الفوضى الخلاقة في المنطقة أن يدشنوا مشروع الوطن العربي الكبير بدلا من استمرار المماحكات بين الحاكم والمعارضة والشارع ينسلخ شيئا فشيئاً عن النخب الوطني ليصنع ثورة تقشعهم من على صهوة الحكم وقد تمزق أوطان بحالها بعد ان وصلت الثورة البوعزعزية اليها تضرب الأنظمة الحاكمة كطوفان لايرحم..
ورغم مرض التشبث بكرسي السلطان إلا أن من يحاولون عبثاً إدارة شعوب تهرسهاً سياسيتهم بترسانة الجوع تحت وطأة البطالة وصلتهم الرسالة الساخنة من تونس.. فتلك مبادرة تونسية ولدت لتنتشر أوساط الشعوب وليست مجرد حادثة نقرؤها لنستلهم الأحداث، كبسولات مهدئة لننام، حيث أن بوادرها بدأت تضرب دولاً شتى في المنطقة، فالأنظمة العربية منذ طالتها الفوضى بحلة ثورية وان كانت تنذر بالتخريب كما يراها البعض، إلا أنها وضعت الحكام العرب بين خيارين لا ثالث لهما: "الوحدة العربية أو الرحيل، وهو الخيار المر الذي سيركبوه قسرا ويترجلون صهوة الحكم، ويتقيئون هوس التسلط وحب السلطة في لحظة لا تدع أمامهم سوى خيار الغضب الأوحد المشير بهراوته نحو بوابة الرحيل..
وأخيرا هل استوعب قادتنا العرب والنخب العربية الدرس -عاقبة البطالة والفساد والاستبداد- يوم لا ينفع المتنفذون ظلمهم والفساد ولا تحمي القوة ما كسب النافذ من قصور وفلل إلا في دولة حاربت الفساد ونشرت الأمن والعدل ووفرت فرص العمل.
عبد الحافظ الصمدي
الخيار المر... 1992