يجيد الكثير من الناس العمل بيد واحدة ويجيد آخرون العمل دون استخدام اليدين لأن أفكارهم متشعبة كشباك العنكبوت، لكن الغالبية العظمى من الناس تحتاج لكلتا يديها حتى تخبز أحلامها على حرارة العمل ثم تمضغ الرضا
صامتة.
وكما يقتات البعض بأيديهم ويعتاش آخرون بعقولهم يحيا نصيب من الناس بقلوبهم فقط، وحين تضع الأقدار واحداً من هؤلاء في طريقك فأنت إذاً ذو حظ عظيم.
الحياة برمتها كتاب كلتا دفتيه تحمل قبرين من الطين أحدهما يعلن ميلاداً والآخر ينعيه، رحم الأم والقبر الذي يضم الرفاة.. لكن بين دفتي الكتاب أيضاً ضوضاء بشر، صخبُ حياة، ضجيج أرواح، ونبض خافت لا يسمعه أحد
إلا نحن، إنه القلب الذي يراه الناس مضغة فقط بينما ذكره الله في قرآنه اسماً ومعناً ووظيفة.
وقال عنه رسول البشرية "مضغة إن صلحت صلح الجسد وإن فسدت فسد الجسد"، لماذا إذا نوصد قلوبنا في وجه من يحاول إخراجنا من عالم مظلم إلى عالم من نور؟!.. القلوب لها ذاكرة تماماً كذاكرة الصحة
والمرض، فنحن ننسى أياماً كثيرة عشناها بلا ألم، لكننا لا ننسى تلك الأيام التي اغتال فيها ابتساماتنا المرض، حتى وإن قال البعض إن الدماغ هو مركز المشاعر ومصدر العواطف فأنا أتمسك بقول القرآن "ولكن تعمى القلوب التي
في الصدور" الحج.
ولا اعتقد أن أحداً ما يحمل تجويف صدره على رأسه! القلوب تتحدث بلغة البصيرة، بالرغم من أنه ليس لها عينان.. أدمغتنا تتأمل هذا الكون الفسيح بكل ما فيه ومن فيه دون أرقام أو معادلات أو دراسات أو توصيات..
فقط مشاعر، وحتى المشاعر لها رموز وشفرات وأرقام سرية لا يمكن أن تعمل إلا وفق معادلة هرمونية بشرية دقيقة.
ولهذا قد لا تشعر بقوة جذب إلى شخص عشت إلى جواره عمراً بينما تحدث لغة تواصل صامتة بينك وبين إنسان لم تعرفه إلا منذ وقت قصير، وإذا عدت إلى وصف القلب تلك الكمثرى المقلوبة داخل تجويف الصدر فاستطيع أن
أقول إنها فاكهة الجسد المحرمة التي لم يتذوقها بشر، ولعل البعض سيشتم من أحرفي رائحة دراكولا أنثى لكن الحقيقة لا تختفي خلف الظل أبداً ولا ترتدي قناعاً يخفي ملامحها البارزة رغماً عنها، ولا ترتخي لتقع أرضاً، إنها أقوى
وأذكى وأكثر صلابة مما نتوقع لأن الحقائق خلقت قبل الفكر فهي مدركة بالفطرة شأنها شأن الليل والنهار، والسهل والقفار، الجنة والنار.. ولهذا أقول أن فريقاً من الناس يقرؤون ويكتبون ويتحدثون بقلوبهم، ولا ننسى أن
للأرواح أروقة ولعل القلب هو أولها إن لم يكن آخرها أيضاً.
لهذا السبب تحديداً نحن نحب آباءنا وأمهاتنا كثيراً جداً لأنهم قلوب تمشي على الأرض.. وإذا أسهبنا في تشريح الجسد كأعضاء مسؤولة عن العاطفة نجد أن هذا الجسد كيان عجيب جداً له نقطة مركزية "السُرة" أو الحبل
السري الذي حصلنا عن طريقه على أولى قوافل الإغاثة من أجساد أمهاتنا، ثم نصف علوي يحوي المنطق والعقل والفلسفة والحب والشعور بالجمال ويتحكم بالقسم السفلي الذي اعتبره أنا حاضنة تكاثر وجهاز تصريف متحرك.
ويستطيع الإنسان أن يعيش بدون جزء سفلي "ماعدا جهاز الإخراج" لكنه لا يستطيع أن يعيش بدون جزء علوي سليم، قد يقول أحدهم: ولماذا يعيش المجانين، إذاً فأقول: قل بم يعيش المجانين إذاً؟! إنهم دون أن يعلموا
أو يعوا عالمهم هم في عداد الموتى.. ويكفي أن الحياة بأسرها قبرهم الكبير.
ألطاف الأهدل
القلوب التي في الصدور 2365