لا شيء في الحياة أقوى لحناً على مسامع الناس ، ألذ ذوقاً على شفاههم ،أصوب سهاماً على جدران قلوبهم ،من ذلك الذكر المنظوم في كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد .
تلك الرسائل المليئة بالغفران ،القريبة من الوجدان ،تبعث الخوف والسكينة في ومضة شعور واحدة لأن الحياة وحدها من تحمل الأفراح والأحزان في رحمٍ واحد ..البكاء لغة العاطفة لأنها المتحدث الرسمي لأفراحنا وأحزاننا ،فنحن إذا فرحنا نبكي وإذا حزنا أيضاً نبكي ولهذا تبقى الدموع هي ماء المشاعر التي تغسل اللحظات الطارئة في ثوانيها الأولى ..لكنها أيضاً الوقود الذي يشعلها في ساعاتها الأخيرة حين يكون الندم هو الحكم .
دموع التماسيح مصطلح يطلقه الفارغون من الوعي على الذين يظنون أنهم بلغوا من الوعي قمته ومن النضج سنامه ومن العاطفة نصابها المكتمل ،لكن ليس معنى هذا أن التماسيح لا تحزن وأن بني البشر خالين من الخيانة.
القرآن الكريم ذكر تلك الدموع في قصة يوسف عليه السلام حين قال جل وعلا "وجاءوا أباهم عشاءً يبكون" صدق الله العظيم آية [16].
تحديد الوقت "عشاءً" كان جميلاً لاستشعار القارئ والمستمع مدة حياكة القصة في استغراق وقت اللعب وأيضاً استنزاف وقت إضافي للبحث عن الأخ المفقود ! مع استخدام البكاء كأداة للندم والخوف من عقاب الأب الذي هيأ لوقوع الفعل "بغير شعورٍ منه" بقوله لهم قبل أن يأخذوا يوسف فقال تعالى" وأخاف أن يأكله الذئب" ..ولعل في الحياة كثير من هذا الإعداد المسبق والخارج عن الشعور لوقوع جرائم ما كانت واردة في أذهان مرتكبيها .
وبالعودة إلى الدموع والبكاء نجد أن الدموع هي صوت الوجدان الذائب على حرارة أحداث الحياة المحزنة منها والمفرحة على السواء .
ولعلي أذكر شعراً منذ سنوات عديدة عن هذا الحدث اللذيذ الذي يبين ضعف البشر وقوتهم في كأس مرّة شهدُها علقم وعلقمها شهدٌ يذوب في أفواه من منحتهم الأيام ما سلبته أو سلبت منهم ما أهدته لهم قبلاً .
يقول الشاعر في وصف حالة وجدانية عميقة لمحبوبته موزونة تماماً مع سابق الحديث :
إني أحبكِ عندما تبكينَ
وأحبُ وجهكِ غانماً وحزينا
الحزن يصهرنا معاً ويذيبنا
من حيث لا أدري ولا تدرينَ
بعض النساء وجوههن جميلة
وتصير أجمل عندما يبكينَ!!
انظر إلى هذا الذوبان الفاتر والمشتعل في وقتٍ واحد ،الذي جمع لذة الحب بحرقة البكاء ،يا الله منتهى القوة والضعف ،ملحمة براءة وعفة وخوف ..وهكذا تحكي دموعنا أحياناً قصص حياتنا كاملة بلا رتوش أو تعديل ،وربما استطعنا بدمعة أن نصنع مالا تستطيع صنعه ببسمة .
ولتشعروا مثلي بروعة الوزن والمعنى في القصيدة عليكم أن تفتحوا حرف "النون" في نهاية كل شطر فتقرأ "تبكين" وكأنها "تبكينا".
ألطاف الأهدل
وجاءوا أباهم عشاءً يبكون 2398