لدي شمعدان جميل من الرخام يساوي لديَّ.. وكلما احتجت لجرعة قسوة تؤهلني للعيش ضمن مجتمع صوّان أقضي دقائق ـ متأملة في تلك الخطوط الغامضة من الصخر وهي تتزاوج بحنان مع أخرى شفافة جداً وكأنها صورة
لذوبان الجبال والأنهار والقفار وإنطراحها كقوالب بين يدي إنسان فنان .
من منّا لا يحب الرخام بكل أشكاله وألونه ويتذوق عروقه المتجذرة بتفانٍ في أحشاء بعضها البعض ،ذوبان ليس له بداية ولا نهاية .
الرخام لغة الصخر الراقية ..تلك المفردة التي تتوهج حروفها بفخامة.. تماماً كما تتوهج مفردات الملكية والإمارة والارستقراطية والبذخ ..شيءٌ ما يتوقد بداخلي وأنا أتأمل هذا الشمعدان وكأني أعيش قصة من ألف ليلة
وليلة .
يا لهذا الجمال المتدحرج من أعلى قمة الجبل حتى قاع الوادي ،أشعر أن جبالاً شامخة ذابت وأنهاراً جارية تجمدت لتتحد في تواؤم فريد وفي قطعة واحدة ..وليس هذا حال شمعداني العتيق إنما هو جسد الرخام الجميل أينما
أنطرح تحت أقدامنا أو تعالى بشموخ في أعمدةٍ سامقة مُسبحة ..أو وقف شاهداً على هذا الكون في تحفة مصنوعة من الرخام ،وما أدراك ما الرخام !! ..لفرط بهائه وشموخه يسقطه البعض على النساء فيقوله أريد امرأة
رخامية ،ولشدة برودته وصلابته يعيبه البعض بنفس سياسية الإسقاط تلك فيقول :لا أريد امرأة من الرخام ..نعم جميل جداً لكنه بارد وقاسٍ جداً .
للرخام ألوان خُرافية رائعة جمعت كل ألوان الطبيعة ولن تصدقوا وجود ذلك اللون الأرجواني العذب ممتزجاً باللون العاجي.. يتطفل على انفرادهما عرقٌ أصفر ..الأخضر منه غابة لا يُرى قاعها فرؤوس أشجارها بساط
تقوم على ظهره مُدن وما أكثر ما ذكرني هذا بقول الله الواحد جل وعلا في كتابه العزيز " ومن دونهما جنتان * فبأي آلاء ربكما تكذبان * مدهامتان" الرحمن آية [62-24] ..ومعنى قوله تعالى "مُدهامتان"
أي خضراوان تضربان إلى السواد من شدة الخضرة والري .
وأكاد أحار حين تأملت مرة قبل سنوات طويلة معرضاً إيرانياً للأثاث المصنوع من الرخام بكل تفاصيله غير تلك الروابط العتيقة من النحاس وخشب الزان والفضة وأذكر أني كنت كمن يثمل بعينيه حتى شعرت بعوارض الهلوسة
تعتريني فاكتفيت بهذا الشمعدان صديقاً على مكتبي لا يجرؤ على المساس به أحد سوى عيناي .
ربما يجد البعض نوعا من المبالغة فيما كتبت.. لكني أتأمل كثيراً في كل ما حولي وأؤمن أنها عبادة لذيذة تقربني من ملك الملوك ربّ الصخر والماء والبشر .
وربما لفرط دهشتي بهذا الصخر الجميل وجدت أناملي مرة تنحت الشعر على الورق فكتبت :
أنا صخرية التكوين ** لا أخشى براكيني
لكني أخاف الطين ** شيء فيه يُفنيني
حتى وصلت إلى :
ولكني بقيت أنا ** بين الصخر والطينِ
في قصيدة عُشارية احتفلت بشمعداني حين نلت جائزتها قبل عام .
الحقيقة ليس الصخر وحده من يذيب مشاعرنا.. فكل ما في هذا الكون الفسيح يستحق التأمل إجلالاً للخالق وتبصرة للمخلوق ..وأنا أستشعر باستمرار حياة الطبيعة من حولي.. فإذا كان الصخر يسقط من خشية الله فما
بالكم بالأزهار وفراشات الحقول وحتى تلك الخنافس المجنحة !.. الكون عظيم بنا ونحن عظماء به وكلما تأملناه حولنا إلى أصل من أصول الإنسانية ..الفطرة.. ذلك التي لا يصقلها إلا التأمل .. إنه صلاة بلا قبلة
..خطبة بلا محراب.. رسالة بلا كلمات .. هل أحصل على وعدٍ منكم أن تتأملوا الحياة كما لم تفعلوا من قبل ؟! حسنا فلنبدأ بتأمل وجه من نحب من هناك تبدأ الحكاية .
ألطاف الأهدل
الرخام ..لغة الصخر الراقية 1930