من الجميل أن يكون المرء منصفاً باحثاً عن قطرة العدل الواحدة ليثقل كفة ميزانه ،دون أن يقلل من شأن الآخرين أو يتجاهل جهدهم ومحاولاتهم الدؤوبة في إظهار أعمالهم وإبراز إبداعاتهم وعرض أحلامهم الوردية المتألقة على مائدة الجهد والمثابرة تصنيفاً وتفصيلاً وترويجاً ووصولاً إلى قمة النجاح والتفوق .
كنت قد كتبت مقالا بعنوان "مؤسسة السعيد –بيت العلم" تحدثت فيه عن مكتبة السعيد كصرح علمي متألق وعدت بخيالي كزائرة للمرة الأولى إلى الجمعية الخيرية للأسر المنتجة مسترسلة بحديثي ما رأيته دون أن انتبه إلى أنهما لصيقان جغرافياً فقط ،لكن لكل منهما دوره المختلف تماماً عن الآخر ولهذا عدت هذا الأسبوع لأقدم اعتذاري لتلك الأسر المتوحدة شكلاً ومعنى وعلى رأسهم الأستاذ/ محمد راوح الشيباني-مدير الجمعية- وها أنا ذا أتأبط كبوتي وأعود بغير ملل للحديث عن الجمعية الخيرية للأسر المنتجة هناك على ضفة العطاء اللامتناهي حيث تتحول بطائن الأقمشة إلى كساء وظاهرها إلى عنوان وفاء بين يدي عاملات بجمال الفراشات وخفة الغزلان وبراءة الحملان الصغيرة على سفح جبل .
ولعي لم أبالغ في قول ذلك إذ أكتب ما أشعر به ولو كان شعوري بساطاً سندسياً من الوهم، كنت قد كتبت عن الأب الروحي لهذا المكان "أ/محمد راوح" وأنه كان يحتضن المكان بعينية في ألفة عجيبة تدل على مدى ذوبان أركان العمل مع بعضها البعض لتصنع هذا الوفاض المليء بالأحجيات الملونة ولفرط إحساسي شيئاً أبهرني في ثلاث فتيات من ذوي الاحتياجات الخاصة "من البكم" وهن يتحدثن بالإشارة مع المشرفة وتذكرت كيف أن البعض قد حباهم الله نعمة الكلام فحولوا تلك الألسن إلى ألسنة لهب ولم يقدموا للبشرية شيئاً بينما تفقد تلك الفتيات حاسة الكلام ليقدمن للعالم أبهى الحلل مما يستر الجسد ويواري سوءة الشيطان على أجساد البشر ، الخيوط والشعرات وأدوات القص المتطورة مغرية جداً لامرأة مثلي تذوب في ألوان الدنيا كلها وتعود كل مساء بالأسود والأبيض فقط "ورقي ومحبرتي" .
كنت أرى تلك البكرات المعروضة برشاقة كعارضات الأزياء الأوروبيات يقفن مائلات لالتقاط صورة أخيرة بجوار مصمم مبدع .. هذا المصمم المبدع هو الإبرة الفضية الصغيرة التي ترقع الثياب كما ترقع الأيام جراح الروح والجسد .
وفي الطابق الآخر من المبنى صالة واسعة تحوي مجموعات كبيرة لدراسة دورات متعددة ومتطورة لفنون النقش والكوافير والتطريز وصناعة العطور والبخور ومختلف المستحضرات العطرية .
لن تصدقوا أنه حين جذبني الإعلان اخترت دورة صناعة العطور لأني شغوفة جداً بالروائح واليوم أصحبت أكثر حقداً على محلات العطور لأنني أصحبت اعرف ما الذي يسكب رويداً رويداً إلى أنوفنا دون أن نشعر .
في نهاية كل يوم يحدث انفجاراً ناعماً مذهلاً حين تعج صالات المبنى بالبخور وتسير الفتيات مخضبات إلى منازلهن بنقوش تروي أساطيراً وحكايات .. كرنفال ناعم سعدت به جداً ولأول مرة تهديني الأيام شيئاً كهذا الجلال والجمال .
اعتذر مجدداً عن تداخل الصوت والصورة والمعنى الذي حدث معي مسبقاً وأرجو أن أكون قد عدلت ولم أظلم أحداً وأنا افتخر بتلك الزيارة وأقدر من كان سبباً في حدوثها .
ألطاف الأهدل
اعتذار وافتخار 1905