تمثل الإدارة الوطنية ـ لأي بلد ـ السياج المنيع له ضد انحرافات القوى وتطلعات المراكز التقليدية التي لا يمكن لها بأي حال من الأحوال أن تكون روافع مشاريع وطنية، لأنها لا تمتلك رؤى وطنية حداثية، ولا تؤمن بها، فما تؤمن به مراكز القوى التقليدية في القوة وتوازناتها القبلية ليس إلا، وإن تجمعت تحت سقف ومسميات تزعم وطنيتها، فيما هي تناضل على مصالح فئوية ونفوذ عشائري وترسيخ دعم "جيوقبلي" لشخصيات قبلية ورموز عشائرية ودينية، ليزداد نصيبها في كعكة الداخل ومنح الخارج، ولتبقى فوق القوانين والدولة والمجتمع.
ودائماً ما تظهر للسطح مثل مشاريع وتجمعات العشائر، وتتحدث باسم الوطن والناس، إلا من حالات من الترهل الرسمي للإدارة الوطنية التي تنهار منظومة قيمها ومعاييرها وأخلاقياتها عندما تستبدل بقيم ومعايير غير وطنية تنحصر بين القرابة الأسرية والولاءات لمراكز النفوذ المؤثرة في صناعة القرار وبين صفقات يبرمها المركز مع المكونات "الجيوقبلية" على هيئة اختزال لأقاليم ومناطق بأشخاص يمثلون الدولة فيها، وعلى المدى البعيد أو المنظور يمثلون بديلاً لها عند ضعف المركز وغرقه في المشكلات لتصبح سلطة العائلات والعشائر والجماعات الدينية أمراً واقعاً في ظل تكريس قانون القوة كبديل لقوة القانون، وهيبة القبيلة ونقلها يصبح الناظم الرئيسي لرؤية الدولة ومشاريعها وأولوياتها وعلى حساب هيبتها فينعكس كل ذلك سلباً على المواطن والفقراء من جهة ثانية.
* الإدارة الوطنية في وجه المشاريع الصغيرة
وبالطبع متى تظهر مطامح المشاريع الصغيرة تكون قد ظهرت قبلها مقدمات تغري بوجودها، أهم هذه المقدمات ضيق دائرة القرار وانعدام المشاركة، أو تكاد تكون في ما يتعلق بكل ما هو استراتيجي في ميادين السيادة الوطنية والثروات القومية والتخبط في الأولويات وانهيار معيار الكفاءات مقابل القرابات والولاءات الصغيرة، التي فتحت بدورها شهية المشاريع الصغيرة بالمقابل، ولو أضفنا إلى ذلك عامل تغلغل الفساد والمجاهرة به مقابل ضعف المحاسبة وهامشية القانون وعدم تكافؤ الفرص والاستئثار بالمال العام.
وما يحتاج إليه وضع كهذا هو اصطفاف شعبي مدني وحضاري، من أجل إدارة وطنية قادرة على ترسيخ سلوكيات وأفعال وطنية حازمة، مصحوبة بثقافة وطنية وفق رؤية استراتيجية تمتد إلى المستقبل والأجيال.
إننا بحاجة إلى ثقافة تحولات مقرونة بإرادات وطنية متحررة من رواسب الماضي بكل أشكاله، وقادرة على القفز فوق تأثيرات واقع ضاغط باتجاه محدد بعيداً عن مؤشر الوطن، لينصرف إلى العشائر والمناطق والأفراد والتي إن انجذبنا إليها نكن قد ساهمنا في خدمة المشاريع الصغيرة.
لهذا لا يمكن لأي إدارة هشة ـ يمثل القانون محطة أخيرة في أولوياتها ـ أن تقنع المواطن بأنها إدارة مثالية، وعلية أن يضحي للحفاظ عليها واستمرار الانجازات أمام هذا الكم من المشكلات والمعاناة التي أفرزتها هذه الإدارة في حياة ووضع المواطن اليوم.
فضلاً عن إقناع شخوص ورموز العشائر بأن الإدارة الحالية أرقى ما يمكن اعتباره إدارة وطنية، وبالتالي عليهم الإذعان لها كيفما اتفق الأمر، وبدون صفقات تذكر لهم أو معهم، لأن هذه الرموز العشائرية من الوهلة الأولى لم يعتبرهم المركز يوماً دائرة الإدارة والمؤسسات الرسمية، وبالتالي أكملت "اللجنة الخاصة" النقص فأصبحت هذه الرموز شراً لابد منه، وربما عقبات كساد تجاه الكثير من التوجهات، أو هكذا يصورهم المركز الذي لا أشك بقدرته على إيجاد إدارة وطنية خارج سياق السفارات وإعلانات الهيئة الوطنية للتوعية التي تعمل دون أن تشعر على تسليح القيم الوطنية وتصبح جزءاً من منظومة إعلانات مملة كبعض السلع المتقادمة والرتيبة.
المسألة تحولات إلى شعارات إرادة وإدارة معايير كفاءات ونزاهة وشفافية، لا مجرد استحداث أجهزة ومناصب وعسكرة الحياة المدنية، فالمعايير المختلة لن تكف عن إنتاج أوضاع أكثر اختلالاً، والعقليات الصغيرة والرؤى الذاتية والآنية والنزاعات المؤقتة والتوجهات الطارئة والمنفعلة لن تصنع وضعاً مختلفاً في بلد يعيش على التوتر والانفعال والصراع المزمن كصفيح ساخن لن يهدأ إلا بحلول جذرية لا مجرد مسكنات عابرة، إذاً الإدارة الوطنية هي أولى الأولويات في اعتقادي كما أنها الحل.
////////////////
عبدالسلام البعداني
الإدارة الوطنية في وجه المشاريع الصغيرة! 1738