ويضيف فيستوجيير قائلاً: "هكذا قامت العقلانية الاغريقية، بعدما قوضت نفسها بنفسها، برد فعل مشؤوم ووجهت الناس إلى اللا معقول، إلى شيء ما يقع، فوق العقل أو تحته أو خارجه على الأقل، يقع على مستوى الحدس الصوفي أو على مستوى الإشراق وأسراره أو على مستوى السحر وعجائبه، وأحياناً اتجه الناس إلى هذه المستويات جميعاً. لقد تعب الناس من تلك الحجج التي لم تكن تصلح إلا في إظهار العقل بمظهر المتناقض المتهافت. وفي انتظار (= الحصول على مصدر للمعرفة مباشر ويقيني أي في انتظار "الكشف") كان لابد من العيش، لابد من إعطاء معنى للحياة، وبالتالي فإن ما كان الناس في حاجة اليه هو تعليمات تصدر إليهم، هو سلطة تطلب منهم الخضوع لها، هو الإيمان والتسليم. لم يعودوا يرغبون في البراهين فلقد كانوا يريدون ان يؤمنوا (...) لقد كانوا يبحثون عن الوحي والإلهام النبوي. ذلك لأنه لما كان الله هو وحده الذي يُحسن الكلام عن نفسه فإنه من الضروري توجيه السؤال إليه. ولا فرق بين أن يجيبك شخصياً بواسطة أحد العرافين أو يكلمك خلال رؤيا ينعم بها عليك، وبين أن تصدق برسله الذين كانوا على اتصال به في ماض سحيق والذين سجلوا في كتب مقدسة ما أخذوه منه"، ومن هنا اتجهت الأنظار إلى بلاد الشرق، الى "الشعوب التي ترى قبل غيرها اشراقة الشمس".
تتجلى هذه الميول اللا عقلانية، أولا وقبل كل شيء، وفي مجال الفلسفة بالذات، في الإقبال على بعث الفيثاغورية وتجديدها. ويقرر فيستوجيير "أن الإيمان بفيثاغورس كان يزداد بمقدار ما كان يتناقص سلطان العقل". ويفسر ذلك بأن ما كان يشكل قوة الفيثاغورية الجديدة هو أنها لم تكن فلسفة، أي منظومة من الأفكار المتكاملة المتناسقة حول الله والعالم والإنسان، فهي لم تكن تعتمد البرهان، وإنما كانت عبارة عن نظام كهنوتي يكرس الانقياد الأعمى لما يقوله كائن يأتيه الوحي والإلهام، لا يهتم بإقناع الناس، بل يريد أن يسلموا له تسليماً. لقد كان على كل نقاش أن يتوقف بمجرد ما يرتفع صوت يفوه بتلك الكلمة التي كان لها فصل الخطاب، كلمة: "نطق المعلم فقال..". أما هذا "المعلم" فهو إما إله أو نبي أو ولي، وعلى كل حال فآيته الإتيان بالخوارق والكرامات، وبالتالي امتلاك للحقيقة".
لقد كانت الفيثاغورية الجديدة في جوهرها قراءة لأفلاطون بواسطة فيثاغورس، الشيء الذي يعني "تتويجه بتاج النبوة".
العودة إلى فيثاغورس وإلى من هم أقدم منه من الفلاسفة وأصحاب النبوة وأهل الحكمة العتيقة، ذلك هو الإتجاه الذي ساد القرن الثاني والثالث للميلاد في الامبراطورية الرومانية وبكيفية خاصة في جزئها الشرقي مصر _سوريا... الخ. والنتيجة هي ذلك التيار الفلسفي الديني الذي يحمل امشاجاً من آراء فلاسفة ما قبل سقراط معروضة عرضاً افلاطونياً دينياً على الشكل الذي رأيناه عند الشهرستاني في حديثه عن الفلاسفة الاوائل "اساطين الحكمة" أو "الحكماء السبعة".
ففكرة الإله المتعالي والقول بالعنصر الأول ثم بالعقل الذي فيه صورة العالم، ثم بالأصل الالهي للنفس وبالتطهير... كل تلك عناصر مشتركة اساسية نجدها منسوبة إلى الحكماء السبعة كلاً أو بعضاً وبالخصوص منهم إلى انبادوقليس، وهي نفس العناصر التي تأسس عليها أساس الفلسفة الالهية وعرفانه المشرقي.
عندما مات الاسكندر سنة 323 قبل الميلاد (أي قبل وفاة استاذه ارسطو بسنة واحدة) اقتسم قواده امبراطوريته الشاسعة: فكانت بلاد اليونان ومقدونياً في يد القائد انتيجونس وعاصمته اثينا وكانت البلاد الاسيوية في يد القائد سلوقوس مؤسس دولة السلوقيين وعاصمته انطاكية، اما مصر فقد كانت من نصيب بطليموس واسرته وعاصمتها الاسكندرية. وكما توزعت السلطة بين هذه العواصم الثلاثة فقد توزع الفكر اليوناني، علماً وفلسفة، بينها ايضاً. غير ان نصيب الاسكندرية كان أكبر واغنى.
فما هي الهرمسية، ما حقيقتها وما نوع الفلسفة والعلوم التي كانت تنشرها وما طبيعة النظام المعرفي الذي يؤسسها؟
الهمرسية نسبة إلى هرمس "المثلث بالحكمة" كما هو شائع في المؤلفات العربية أو "المثلث بالنبوة والحكمة والملك" كما ورد في كتاب المبشر بن فاتك.
وهرمس في الاصل اسم لاحد آلهة اليونان المرموقين عندهم. وقد طابقوا بينه وبين اله مصري قديم هو الاله طوط، كما طابق بعض اليهود بين هرمس طوط هذا وبين النبي موسى. أما في الميثولوجيا المصرية القديمة فقد ظهر طوطا كاسم لكاتب الإله أوزيرس اله الدلتا المسؤول عن الموتى والمصير البشري. ومن وظيفة طوط كـ "كاتب" نسب إليه اختراع الكتابة، وبالتالي جميع الفنون والعلوم التي تعتمد الكتابة وتمارس في المعابد كالسحر والطب والتنجيم والعرافة. ثم ارتقى الاله طوط درجة في سلم الالوهية داخل الأساطير المصرية فنسب إليه خلق العالم بصوته لانه كان مطلعاً على قوة تأثير الصوت والكلمة. وتقول الأساطير المصرية ان صوته يتكثف بنفسه فيصير مادة، ومن هنا كانت قوة طوط كامنة في صوته، أي في "النفخ" الصادر عنه، ومن هذا النفخ يخلق كل شيء، فهو إذن الإله الخالق والمعلم. هذا في الاساطير المصرية القديمة، أما في الأساطير اليونانية فلقد كان هرمس محترماً عندهم إذ كان ابنا للإله الأكبر زوس وقد نسبوا اليه هم أيضاً اختراع الكتابة والموسيقى والتنجيم والاوزان والمقادير... أما في الأدبيات العربية الهرمسية فقد كان هرمس يقدم على انه النبي ادريس المذكور في القرآن وانه أول من علم الكتابة والصنعة والطب والتنجيم والسحر... الخ.
أما الهرمسية كعلوم وفلسفة دينية فترجع إلى مجموعة من الكتب والرسائل تنسب إلى هرمس المثلث بالحكمة الناطق باسم الاله وأحياناً يقدم على أنه هو نفسه اله، ولذلك كانت تعتبر تلك المؤلفات وحياً إلهياً. غير ان البحث العلمي الحديث (= دراسة فيستوجيير خاصة) اثبتت بما لا يقبل لاشك ان تلك المؤلفات ترجع في جملتها الى القرنين الثاني والثالث للميلاد، وأنها كتبت في الاسكندرية من طرف اساتذة يونانيين، او من طرف اساتذة قبطيين يعرفون اليونانية، وانها مستمدة في جانبها الفلسفي الديني من الفيثاغورية الجديدة والافلاطونية المحدثة وفي جانبها العلمي (= التنجيم خاصة) مما انتقل الى مصر من العلوم الكلدانية عندما كانت تحت السيطرة الفارسية. أما الكيمياء الهرمسية فهي مزيج من الكيمياء النظرية اليونانية وفن صناعة الذهب المصرية. هذا بالإضافة إلى تأثرها بالزراديشتية والعلوم السحرية المجوسية التي كانت منتشرة في مصر، إذ يقدر بعض المؤلفين حجم الأدبيات الزراديشتية في مصر عام 200 ق.م بنحو مليوني سطر.
والآن ما هو مضمون التعاليم الهرمسية، مضمونها الفلسفي الديني خاصة؟
تقدم لنا الهرمسية نظرية كونية بسيطة: "ففي قمة الكون وفوق سماء النجوم الثابتة يقيم إله متعال، لا يقبل الوصف، منزه لا تدركه العقول ولا الابصار، مالك العالم. وازاءه توجد المادة غير المتعينة، وهي مبدأ الفوضى والشر وميدان النجاسة والقذارة. أما العالم السماوي وكل ما يشتمل عليه وكذلك الإنسان فقد تولى صنعه الاله الصانع القابل للمعرفة والادراك، وذلك بتكليف من الاله المتعالي. هذا من جهة ومن جهة أخرى فان عالم ما تحت فلك القمر خاضع كله لتأثير الكواكب السبعة وافلاك البروج. ومن هنا توزع البشر الى سبعة اصناف يخضع كل صنف منها لخصائص برج من البروج الفلكية السبعة. والإنسان مؤلف من جسم مادي، أي غير طاهر، يسكنه الشر ويلابسه الموت، ومن نفس تشتمل على جزء شريف ينحدر من العقل الكلي. هذه النفس الشريفة _بل هذا الجزء الشريف من النفس _ يعيش في صراع دائم مع الرغبات والاهواء التي سببها وجود الجسم. ولجعل حد لهذا الصراع جاء الإله هرمس، الوسيط بين الإله المتعالي والإنسان بتوسط العقل الكلي ليعلن الخلاص ويبين طريق النجاة. غير ان أقلية من الحكماء والاصفياء هي وحدها التي تستطيع ان تتحمل اشراقة العقل (= الكلي) الهادي الى طريق المعرفة الحق، طريق اندماج النفس في الله _= الفناء باصطلاح متصوفة الاسلام). وهؤلاء الحكماء الحقيقيون، المطهرون المقدسون المجتنبون لكل نقص، هم وحدهم الذين يتحررون من المادة ويفلتون من قبضة القدر (= الضرورة) فتصعد نفوسهم الناجية إلى السماء بينما تندمج أجسامهم، بعد الموت، مع جسم كوكب من الكواكب. وقد ترتقي النفس في معراجها الى السماء الثامنة (= السماء العليا) محفوفة بجوقة من الملائكة حراس الاجواء العليا. ذلك هو مصير الحكماء، أما النفوس غير المطهرة فان الزوابع الجوية تلقي بها في سحيق جهنم"، وتشاهد النفس في معراجها هذا كائنات روحية عديدة، ملاك الحياة، ملاك المادة، ملاك الفرح، ملاك الراحة، ملاك الخوف، الإله المنزه من الرغبات الذي ذكره افلاطون في محاورة فادن وطيماوس والإله الأرفي (نسبة إلى النحلة الارفية) كما تشاهد "البرزخ الذي يقول عنه الرواقيون والمنجمون انه يفصل العالم السماوي عن العالم الارضي".
واضح من هذا الملخص، الذي نقرأ فيه، رغم تركيزه كثيراً من الأفكار التي راجت فيما بعد في الثقافة العربية الاسلامية، وفي أوساط المتصوفة والتيارات الباطنية خاصة، ان المسائل الرئيسية التي تعالجها الفلسفة الدينية الهرمسية تدور حول قضية الالوهية ونشوء العالم، وقضية النفس وخلاصها، وقضية وحدة الكون وتبادل التأثير بين اجزائه.
هذا باختصار عن مسألة الالوهية في الأدبيات الهرمسية. أما عن قضية النفس، اصلها وطبيعتها ومصيرها فهي مسألة يعني بها بكيفية خاصة التيار المتشائم الذي يتبنى نظرية الإله المتعالي. ان اصحاب هذا الاتجاه اذ يقيمون فاصلاً لا نهائياً بين الله والعالم واذ يؤكدون بالتالي ان الله لا تدركه العقول ولا الابصار، يؤكدون من جهة أخرى ان الطريق إلى معرفة الله هي النفس لأنها جزء من الإله. انها تستطيع معرفته حق المعرفة عندما تتمكن من الاتصال به والعودة اليه. اما العقل فهو في نظرهم انما يستمد مدركاته من الاجسام وما في حكم الاجسام، والاجسام لا يمكن ان تؤدي باية صورة من الصور الى معرفة الله.
هذا الطريق، طريق معرفة الله بالنفس لا بالعقل، يقول به جميع الغنوصيين (= العرفانيين). غير ان ما يميز غنوصية الهرمسية هو تأكيدها على الاصل السماوي _الإلهي للنفس. والنصوص الهرمسية تشرح ذلك من وجهين: اما القول بأن النفس هي من اصل الهي لكونها "بنت الله" حسب حرفية بعض النصوص، واما القول بأنها عبارة عن مزيج، من عناصره "شي من الله نفسه". وتؤكد نصوص هرمسية أخرى ان الله لم يخلق من الانسان الا ذلك الجزء الذي هو من طبيعة الهية، أي النفس، والذي يحمل في ذاته صورة الله في الانسان، وهذا هو المعنى الذي تعطيه هذه النصوص للعبارة الرائجة يومئذ والقائلة: "خلق الله الإنسان على صورته" بإعادة الضمير إلى الله.
النفوس البشرية كائنات الهية، كانت تعيش في الأصل في العالم الإلهي، ثم ارتكبت ذنباً فكان عقابها هبوطها إلى الابدان سجنها. فكيف يمكن تخليص النفس والنجاة بها من الضياع في المادة وما يتبع ذلك من سوء المصير: سحيق جهنم؟
ليس هناك شيء يُخلَّصُ النفس البشرية في نظر الأدبيات الهرمسية غير "المعرفة". ولكن أية "معرفة"؟ انها تلك التي يرشد إليها هرمس الذي جاء يعلن الخلاص. وهذه المعرفة لا تعني "العلم"، أي اكتساب معارف، بل بذل مجهود متواصل قصد التطهير والتخلص من المادة والاندماج من جديد في العالم الإلهي، لا بل الفناء في الله. انه التصوف الهرمسي الذي نقرأ ملامحه واضحة في التصوف الاسلامي.
والواقع أن التصوف الهرمسي بنوعيه الانتشاري (= الاتحاد، الفناء) والانكفائي (= الحلول) ليس سوى مظهر من مظاهر هذه النظرة الواحدية إلى الكون ونتيجة من نتائجها. ذلك أن القول بالأصل الالهي للنفس وهبوطها إلى البدن عقاباً لها، ثم القول بإمكانية عودتها إلى أصلها للاندماج في الله معناه القول بوجود قوة روحانية في العالم تسري فيه سريان النفس في الجسد. وإذا كانت هذه النظرة قد سادت العالم القديم كله بما في ذلك الفكر اليوناني في أوج عقلانيته، فإن الفرق كبير جداً بين التوظيف العلمي الفلسفي لهذه الفكرة من طرف العقلانية اليونانية وبين التوظيف اللا عقلاني _ السحري لنفس الفكرة.
وحدة الكون، الترابط بين أجزائه، تبادل التأثير بينها بالتجاذب والتنافر.. تلك هي الأسس التي يقوم عليها التصور الهرمسي للكون والذي يؤسس في ذات الوقت العلوم "السرية" الهرمسية من كيمياء وتنجيم وسحر.
دمج العلم في الدين والدين في العلم علامة من العلامات البارزة التي يكشف فيها "العقل المستقيل" عن نفسه وهويته. إنه يطلب أن "يعقل عن الله" حتى تلك الأمور التي تركها الله للانسان كي يعقلها مباشرة عن الطبيعة فيسخرها لمصلحته أو يتخذ منها دليلاً وهادياً إلى إثبات وجود الله نفسه، هذا فضلاً عن تلك الأشياء التي قال فيها نبي الإسلام (ص): "أنتم أدرى بشؤون دنياكم". فلنتبع آثار ومواقع هذا "العقل المستقيل" في الثقافة العربية الإسلامية التي استشرى خطره فيها رغم الحديث المذكور، بل رغم كل ثقل "المعقول الديني" البياني العربي.
د. محمد عابد الجابري
العقل المستقيل في الموروث القديم (الحلقة الاخيرة) 1664