كنت أرغب في أن يكون حديث هذه الزاوية عن كرة القدم، وعن ذلك المشهد الكروي البديع الذي أقيم تحت سماء عدن الصافية الدافئة، وبالقرب من بحرها الذي يقاوم البرودة، ويتحدى الصقيع الذي يلفّ بعباءته الداكنة أغلب أجزاء المعمورة، بيد أني آثرت الحديث عن لعبة أخرى، ليس فيها شيء من شفافية الملاعب وأخلاقيات اللاعبين، لعبة غامضة قذرة اسمها السياسة في جانب من صورتها الأبشع، حيث يلعب المشاركون فيه لا بكرات من الجلد، وإنما برؤوس الشعوب وبمصائر أبنائها، ويتصرفون إلا القليل منهم في منأى عن كل القيم والأخلاقيات، وشعارهم منتزع من ذلك التعبير السخيف المتداول في بعض الأوساط الساقطة، وهو “اللي تكسب به العب به”، بعد أن أصبح الشعار السائد في لعبة السياسة الراهنة، وإن حاول اللاعبون في ساحتها إنكار ذلك .
أقول، لقد كنت أرغب في الحديث عن (خليجي 20)، ودورته التي تمّت بنجاح في مدينة عدن، وأكدت أهمية التواصل الأخوي بين أبناء الجزيرة والخليج، لكن ما أثارته تسريبات موقع ويكيليكس غير المتوقعة، من وثائق بالغة الخطورة، شغلت العالم وستظل تشغله إلى وقت طويل قادم، جعلني أنأى بحديثي في هذه الزاوية عن اللعبة الشريفة، وأقترب رغماً عن أنفي من المناخ العفن لتلك التسريبات التي هدمت معبد وزارة الخارجية الأمريكية على رأس الإدارة الحالية، ووضعتها في حالة من الحيرة والفزع تشبه إلى حد كبير حالة الإدارة السابقة لحظة انهيار بُرجَي التجارة العالمية في نيويورك منذ عشرة أعوام، وهو ما عبر عنه الرئيس أوباما بعد إعلان التسريبات مباشرة .
والخطوة القصوى في ما حدث أن الوثائق المنشورة على “ويكيليكس” قد كشفت عورة السياسة الخارجية الأمريكية، وفضحت الوجه الداخلي لهذه السياسة . وما أظن ذلك قد حدث مصادفة، وإنما كان مدبراً ومدروساً قائماً على ترتيب مسبق ولهدف لا يخفى، وتذهب كثير من التصورات إلى أن الجمهوريين المتربصين كانوا وراء ذلك الحدث انطلاقاً من رغبة جامحة ولا أخلاقية في مزيد من تركيع الإدارة الحالية، وإضعافها وإظهارها أمام أصدقائها وخصومها في مظهر غير الحريص على حماية العلاقات مع الدول الأخرى، فضلاً عن تعريض أصدقائها أو الذين يحاولون الدخول إلى (نادي الأصدقاء) لحرج غير مسبوق، وهو ما يجعل كل دول العالم تبدو أكثر تحفظاً وحذراً من الإفضاء بمكنونات مواقفها الحقيقية تجاه كثير من القضايا والشؤون الدولية . وما يترتب على ذلك زيادة معدلات تعكير العلاقات بين الأنظمة وبعضها، وبين الرؤساء وبعضهم .
والسؤال الذي تردد كثيراً وسيظل يتردد هو: لمصلحة مَنْ تمّت تلك التسريبات؟ وقد تعددت الإجابات وتشعّبت، لكن الإجابة المعقولة أنها تمّت لمصلحة شعوب العالم، ولمصلحة الحكام أيضاً . فهي في مصلحة الشعوب لأنها فضحت الازدواجية الناتجة عما يدور في السر وما يذاع في العلن .
عبد العزيز المقالح
كارثة التسريبات 1828