لطالما كانت الجارودية حجر عثرة في طريق الزيدية لذلك فقد تصدى لبيان أفكارها وحقيقتها الكثير من علماء الزيدية الأفاضل في الماضي الغابر وفي الحاضر المعاصر. وقد عرضت قبل شهور بحث الأستاذ المحقق زيد الوزير عن الجارودية وها أنا أعرض في هذه الحلقات بحث العلامة الزيدي المحقق : محمد يحيى سالم عزان لأنه - كعادته - قد حلق عالياً فكشف مستوراً ووضح ما عجز غيره عن توضيحه فإلى هذا البحث الماتع الفريد من نوعه والجديد في أسلوبه والغني في تفاصيله :
من هنا كانت البداية ..
يُشْكِل على كثير من القراء ما يجدون لدى بعض الأشخاص المعروفين بانتمائهم إلى الزَّيدية، من نزعات الغلو والتطرف في المسائل المتعلقة بمكانة أهل البيت ودورهم؛ فيتصورون أن ذلك رأياً غالباً عند الزَّيدية، فيصنفونهم على الفرق الغالية، خصوصاً مع وجود نصوص ومواقف تنم عن ذلك. والزيدية لم ينكروا وجود شيء من تلك النصوص والمواقف، غير أنهم ميزوها عن مسارهم العام حين اعتبروها مدخلات جلبها أشخاص من خارج المدرسة، وبذروها في مواسم الخصومة، ورعوها في أجواء التعصب والتنافر الذي أوجدته المذهبية في حياة المسلمين، وساعدهم على ذلك ردات الفعل السلبية في معالجة ما هو باطل.. وغياب الإنصاف في التعامل مع ما هو حق، بدعوى أنه قد يفضي إلى باطل. فمنذ زمن قديم سجل علماء الزيدية أن بداية تسرب مدخلات أصول الغلو إلى عقول أبنائهم جاءت عن طريق شخص يعرف بـ (أبي الجارود) اسمه زياد بن المنذر، عاش في بداية القرن الثاني، وتوفى بعد سنة (150 هـ)، وهو من أهل الكوفة، كان معروفاً بالغلو في أهل البيت، وكان على مذهب الإمامية أكثر عمره، ثم انظم إلى أصحاب الإمام زيد بن علي، فذمه علماء الإمامية وزعموا أن الإمام الصادق لعنه، وأن الإمام الباقر سماه: (سرحوباً)، باسم شيطان أعمى يسكن البحر(1). وبذلك التحول كان أبو الجارود جسراً لنقل الأفكار الإمامية إلى الزَّيدية. وأصبح لقب (الجارودية) يطلق في كتب الفرق على من اتفق من الزيدية مع أبي الجارود ، في أصلين: أحـدهما: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نَصَّ على الإمام علي بن أبي طالب خليفة من بعده، إما باسمه والإشارة إليه، أو بصفات لا توجد إلا فيه(2)، وبعضهم يتفق مع الإمامية في أن النص على الإمام علي رضي الله عنه كان جلياً لا يحتمل التأويل، وأن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا على علم بذلك النص، وكانا يدركان دلالته على حق علي في الخلافة، ولكنهما أقدما على مخالفته عناداً لله ورسوله وطمعاً في حطام الدنيا. وبهذا بُذرت أول بذور الشك في نوايا من تقدم الإمام علي من الخلفاء الراشدين، وهاهنا وضع الأساس لانتقاصهم، والتهجم عليهم. وثانيهما: أن الإمامة في مقام النبوة باعتبارها خالفة لها، فلابد من أن تكون باختيار إلهي، فلا دخل للبشر في تعيين الخليفة، ولا اعتراض لهم على فكره، وعليهم النزول على حكمه.. وهذا هو جوهر رأي (الإمامية).. ولكن الجارودية لم يصرحوا بالنص على تعيين أشخاص بأسمائهم، ولم يدعوا لهم العصمة، واكتفوا بالقول بأن الله اختص أبناء الحسنين بالخلافة، فلا يصح أن يكون إمام الأمة إلا من أحد البطنين. وهذا ما عرف عنهم لدى المهتمين بشأن الفرق الإسلامية، فقد نقل المزي عن النوبختي المتوفى حوالي (306هـ) وهو من أقدم من تحدث عن الفرق: أن الجارودية ترى: «أن علي بن أبي طالب - عليه السلام - أفضل الخلق بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأولاهم بالأمر من جميع الناس، وتبرؤوا من أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - وزعموا أن الإمامة مقصورة في ولد فاطمة - عليها السلام - وأنها لمن خرج منهم يدعو إلى كتاب الله وسنة نبيه، وعلينا نصرته ومعونته، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم: " من سمع داعينا أهل البيت فلم يجبه أكبه الله على وجهه في النار ". وبعضهم يرى الرجعة، ويحل المتعة»(3). وقال الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى المتوفى (840 هـ) : «َالْجَارُودِيَّة مَنْسُوبَةٌ إلَى أَبِي الْجَارُودِ زِيَادَةَ بْنِ مُنْقِذٍ الْعَبْدِيِّ أَثْبَتُوا النَّصَّ عَلَى عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْوَصْفِ دُونَ التَّسْمِيَةِ، وَكَفَّرُوا مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ النَّصَّ، وَأَثْبَتُوا الْإِمَامَةَ لِلْبَطْنَيْنِ بِالدَّعْوَةِ مَعَ الْعِلْمِ ، وَالْفَضْلِ ، وَيُنْسَبُ إلَى بَعْضِهِمْ الْقَوْلُ بِالْغَيْبَةِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ»(4). وذكر المؤرخ يحيى بن الحسين في (المستطاب) : «أن أبا الجارود هو الذي أثبت النص على (علي) عليه السلام بالوصف الذي لا يوجد إلا فيه دون التسمية، على معنى أنه لم يكن النص على إمامته صريحاً باسمه، بل بأوصاف واضحة لم توجد إلا فيه، ولمّا اختصّتْ به جعلوها كالنص عليه باسمه، وأثبت هو ومن اتبعه الإمامة في البطنين بالدعوة مع العمل والفضل»(5). وهنا لابد من الإشارة إلى أن الجارودية ليست فرقة مستقلة كما توحي به بعض كتب الفرق، إذ ليس لها آراء في مختلف المسائل الفكرية ، كما هو حال الفرق المشهورة ، ولكن الجارودية مجرد لقب يُميز به من وافق أبا الجارود في مسائل الإمامة، وهي مسائل يغلب عليها الجانب السياسي ، فمذهب أبي الجارود مذهب سياسي أكثر منه مذهب فكري.
حضور الجارودية في الثقافة الزيدية
وخلال القرون الماضية كان للجارودية حضور متفاوت في الحياة الفكرية والثقافية للزيدية، أما القرون الأولى فكان ثم تجاهل من قبل كبار العلماء لأفكار الجارودية، بل كانت مشمولة بما يوجهونه من نقد لأفكار الإمامية المشتركة في جذورها مع ما جاءت به الجارودية، غير أن تمكن التشيع في القرن الرابع وازدهاره، مكن بطريقة أو بأخرى من بداية تأصيل وتنظير لنظريات الجارودية داخل المدرسة الزيدية، واستمر ذلك حتى بلغ أوجه في القرن الخامس الهجري أيام دولة بني بويه وبني حمدان. وفي القرن السادس الهجري ظهرت الجارودية في بعض مناطق اليمن بقوة نتيجة للفراغ الذي تركته الصراعات بين أبناء أئمة الزيدية، حتى قال نشوان بن سعيد الحميري (573 هـ): «ليس في اليمن من فرق الزَّيدية غير الجارودية وهم بصنعاء وصعدة وما يليهما»(6). ولكنهم تراجعوا بعد توقف الحروب وعودة المدرسة الزيدية للنشاط الفكري، الذي ظهر ببركاته أئمة كبار، كالإمام يحيى بن حمزة، والعلامة يحيى بن الحسن القرشي، .. ومعاصريهم .. ومن بعدهم جاء الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى، والإمام محمد بن إبراهيم الوزير، والقاضي يوسف بن أحمد الثلائي ومعاصروهم ... ومن بعدهم جاء الإمام عز الدين بن الحسن والسيد صارم الدين الوزير والعلامة علي بن محمد البكري ومعاصروهم.. وقد تمكنت هذه الطبقات من كبار علماء الزيدية من ملء الفراغ وقطع الطريق على تسلل الجارودية داخل المدرسة الزيدية.. وما أن عادت النزاعات في اليمن، وظهرت تيارات متطرفة محسوبة على التوجه السني حتى عادت الجارودية للظهور، وراجت في القرن الثاني عشر الهجري وما بعده، وظلت في مد وجزر إلى أيامنا هذه التي يغلب على كثير من الدارسين من شباب الزَّيدية الميل إلى مذهب الجارودية لعدة أسباب :
أولها: تراجع النشاط الفكري للمدرسة الزيدية الأصيلة، نتيجة لربطها بنظام الحكم الملكي السابق من جهة، وغياب الشخصيات العلمية القادرة على تجديد النظريات، وترتيب أولويات المدرسة.
ثانيها: ردة الفعل الناتجة عما يراه بعض المتحمسين هجوماً يستهدف الوجود الفكري الزيدي، ولا يفرق بين زيدي معتدل وجارودي متشدد.
ثالثها: طغيان المد الاثني عشري، من خلال المطبوعات، والفضائيات، والإنترنيت، في وقت خلت الساحة الزيدية ـ أو كادت ـ مما يملأ الفراغ .
اتفاق في المبدأ .. واختلاف في التأصيل
تصديقاً للمقولة المشهورة : «الشياطين تكمن في تفاصيل» نجد أن الجارودية تتفق مع الزيدية في بعض المبادئ، ولكنها تنفذ من خلال بعض التفاصيل لتجعلها أصولاً تفضي ـ في الغالب ـ إلى نقض المبادئ الأساسية، وتشوه الصورة الحقيقية ومن ذلك: مكانة الإمام علي وتقديمه فالمشهور عن الزيدية أنهم يذهبون إلى: «أن الأدلة اقتضت تعيين الإمام علي بالوصف لا بالشخص، والناس مقصرون حيث لم يضعوا الوصف موضعه، ولا يتبرؤون من الشيخين، ولا يغمضون في إمامتهما، مع قولهم بأن علياً أفضل منهما، لكنهم يجوزون إمامة المفضول مع وجود الأفضل» (7). وهذا موقف متوسط بين مواقف الفرق فجمهور أهل السنة يرون أنه لم يثبت ما يدل على أولويته بالخلافة أصلاً ، وبالتالي فلا شيء على من تقدمه أو قدَّم عليه غيرَه ، واعتبروا ما ورد في حقه من الأحاديث الصحيحة ، مثل حديث (المنْزلة)، وحديث (الغدير) ، مجرد فضائل لا دلالة فيها على الخلافة ، إذ لو كان فيها ما يدل على الخلافة لعلمه الصَّحابة ، ولو علموه لما خالفوه ، وهم خير أمة أخرجت للناس. وجمهور الإمامية يرون أن تلك النصوص تدل دلالة صريحة قاطعة على تعيين الإمام علي خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ويرى بعضهم(8)أن المتقدمين عليه كانوا يعلمون تلك النصوص ويعرفون دلالاتها ، ولكنهم تجاهلوها ، وأعرضوا عنها عناداً وتمرداً ، ولذلك يحكمون عليهم بالزيغ والانحراف ، ولا يتحرجون من التشنيع عليهم والبراءة منهم. ووافقهم في ذلك بعض الجارودية (9). أما جمهور الزَّيدية فموقفهم ما ذكرنا من أن الإمام علياً كان أولى بالخلافة لاعتبارات ومؤهلات شتى ، كسبقه إلى الإسلام ، وبلائه في الجهاد بلاءاً حسناً ، وقرابته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وتميزه بصفات قيادية رفيعة ، كالشجاعة والإقدام ، وسعة العلم ، وحسن التدبير ، إلى جانب ما ورد في حقه من نصوص تصِف مكانته وفضله تساعد على استنتاج أنه كان الأولى بالخلافة. ويردون على كلام الإمامية والجارودية في مسألة النص بأن ما ذكروه دعوى مركبة من ثلاث مراتب: وجود النص ، وفهمه ، وتعمد مخالفته. وفي كل منها نزاع بيّن.
أما وجود النصوص، فيرون أن هنالك نصوصاً؛ أصحها ثبوتاً ، وأقربها دلالة على المقصود ، وأكثرها تداولاً: حديث (الغدير) الذي جاء فيه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من كنت مولاه فعلي مولاه»(10). و(حديث المنزلة) وهو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى»(11). وأما دلالة تلك النصوص، فيرى علماء الزَّيدية أن تلك النصوص المستدل بها على إمامة الإمام علي تحتمل أكثر من معنى، حيث جاءت بالوصف دون التسمية، ولم تكن واضحة في التنصيص على تعيينه خليفة ، بحيث تفهم بتلقائية تتبادر إلى الذهن ، كما هو الحال في التكاليف الشرعية القطعية ، مثل: الصلاة والزكاة ونحوها ، ولكنها مما يحتاج إلى نظر . فقد ذكر العـلاَّمة علي بن الحسين الزَّيدي ـ أحد علماء الزَّيدية في القرن الخامس الهجري ـ في (المحيط بالإمامة)(12): أن الزَّيدية تذهب إلى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نص على علي نصاً لم يعلم السامعون منه مراده ضرورة ولا مَنْ بعدهم ، وإنما يُعرف مراده بالاستدلال ، وذلك كخبر (الغدير) ، وخبر (المنْزلة). ولعلماء الزَّيدية المتقدمين منهم والمتأخرين نصوص كثيرة تؤكد هذا المعنى ، ذكرت طرفاً منها في كتابي: (الإمامة عند الزَّيدية) ، وسأكتفي هنا بذكر رد الإمام عبد الله بن حمزة على القائلين بأن النص على الإمام علي جليٌّ، سواء كانوا إمامية أو جارودية ، ولفظه: « زعمت الإمامية أن النص جلي بحيث يعلم أن الجميع اضطروا إلى العلم بالمراد به ، وأن الكل عَلِمَ أن قصد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن علياً إمام الأمة بعده بلا فصل ، دون أبي بكر وعمر وعثمان ، وأن من تقدم علياً عليه السلام مكابر عامل بخلاف ما علم ضرورة من دين النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأن الصَّحابة كابروا وباهتوا في أمره عليه السلام.
والجواب عليهم: أنَّا نقول: إنكم أتيتم ما لا دليل عليه ، وكل مذهب لا دليل عليه فهو باطل ، أمَّا أنه لا دليل عليه؛ فلأن الأدلة محصورة على: دلالة العقل ، ولا برهان في العقل يدل على ذلك. وعلى: الكتاب الكريم ، والسنة المعلومة ، والإجماع الظاهر. أمَّا الكتاب فلا يمكن ادعاء ذلك لوقوع الاختلاف في معنى الآية ـ ?إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ? (المائدة/55) ـ وافتقار ما تذهب إليه إلى الترجيح ، وكذلك حديث (الغدير) و(المنْزلة). وما انفردت بروايته الإمامية فلا تصححه الأمة فضلاً من أن يقضى ببلوغه حد التواتر ، وحصول العلم الضروري.
ولأنا نعلم أن رجال الإمامية وعلماءهم ، ونحارير مقالتهم ، يسلكون مسلكنا في الاستدلال بخبر (الغدير) و(المنزلة) ، و(آية الزكاة في الركوع) ، وهو معلوم في تصانيفهم وكتبهم ، ويرجحون ويبالغون في الكشف والتبيين ، والاستدلال إلى نهاية الإمكان في الآثار والأخبار ، فلو كان المراد بها معلوماً عندهم ضرورة كما زعموا لاستغنوا بذلك عن الكشف والبيان ، كما فعلنا في أصول الشرائع المعلومة ضرورة؛ لأننا لا ننصب لأهل الإسلام الدليل على أن الصلوات خمس ، وأن الزكاة مفروضة في الأموال ، وأن الحج إلى بيت الله تعالى ، وأن نبي هذه الأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما كانت هذه الأمور معلومةً ضرورة لم تفتقر إلى بيان ولا كشف لمن قد أظهر اعتقاد دين الإسلام ، بل وكلناه إلى علمه.. فلما رأينا علماءهم المبرزين كالشريف المرتضى الموسوي ومن تقدمه ، وتأخر عنه من أهل الكلام بالغوا في تبيين معنى الآية والخبر بل الأخبار ، علمنا أنهم من اعتقاد الضرورة على شفا جرف هارٍ؛ لأن من تحمل المشقة في إظهار الظاهر كان عابثاً ، وكيف يكشف المكشوف؟ أو يجتهد في صفة المشاهد المعروف؟ ونحن وإياهم قد اتفقنا على أن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلا فصلٍ علي بن أبي طالب أمير المؤمنين ، وأن من تقدم عليه فقد أخطأ وعصى ، فلو كان ما ذكروا من النص يوصل إلى الضرورة لوصلنا؛ لاتفاقنا نحن وإياهم على العلم بالدليل ، وكيفية ترتيب الاستدلال ، فلو حصل العلم لهم لحصل لنا ضرورة.. وكما لا يصح أن يِدَّعي بعض المشاهدين العلم بالمشاهدة دون صاحبه ، كذلك هذا ، وكما لا يحصل العلم لبعض السامعين بمخبر الأخبار المتواترة دون بعض ، فكذلك هنا.. والأدلة يجب أن تكون عامة لعموم التكليف ، ولا يصح أن يدعيها البعض دون البعض ، وإنما ينازع في معانيها المخالف ويصححها المؤالف»(13). وفي هذا ما يكفي لبيان أنما يُسْتدل به من النصوص على إمامة الإمام علي ليس قطعي الدلالة ، وبالتالي فلكل ناظر نظره ، ولهذا قال علماء الزَّيدية: «الصحيح عندنا أن تلك النصوص خَفِية لا يعلم المراد بها إلا بضرب من الاستدلال ، فلا يكون الصارف لها عن الإمامة إلى غيرها ـ مما يحتمل لفظ ذلك النص ـ راداً لما عِلْمُه ضروري من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فلا يستحق بذلك الكفر ولا الفسق ، إذ لا دلالة تدل على استحقاقه ذلك. أما دعوى تعمد الخلفاء للمخالفة ، فلا يمكن الجزم بأن من عدل عن اختيار الإمام علي؛ كان عالماً بالنص وأنه تجاوزه عناداً؛ لأن ذلك غيب ولم ترد رواية صحيحة تكشف عن ذلك. لهذا حَمَل علماء الزَّيدية مَن تَقَّدم الإمام علياً أو قَدَّم عليه على السلامة ، ولم يتجاوزوا في نقدهم حد الأدب ، بل رووا فضائلهم واحتجوا بما روي عنهم من حديث وتفسير وفقه وأثنوا عليهم بما يليق بمقامهم كما قدمنا. وفي هذا المعنى جاء عن الإمام القاسم بن محمد وهو من المتشددين في مسألة الإمامة أنه قال: «والحق أنهم إن لم يعلموا استحقاقه دونهم بعد التحري فلا إثم عليهم .. وإن علموا فخطيئتهم كبيرة.. ثم قال : ولعل توقف كثير من أئمتنا لعدم العلم بأنهم علموا أو جهلوا»(14).
المناظرة
سأكمل عرض باقي المناظرات مع الأستاذ الباحث الاثنى عشري عباس والتي بدأت قبل رمضان ابتداءً من السبت القادم حيث سأستكمل الرد على مناظرته الثانية ثم أعرض مناظرته الثالثة وأرد عليها إن شاء الله تعالى.
الهوامش :
(1) أنظر المزيد من التفاصيل في أعيان الشيعة /83 ـ 84.
(2) ذكر ذلك الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى في (المنية والأمل) 97. ونشوان الحميري في شرح رسالة الحور العين 207. (3) تهذيب الكمال 9/520.
(4) الملل والنحل (البحر الزخار 1/15). (5) المستطاب . مخطوط.
(6) شرح رسالة الحور العين 208. (7) مقدمة ابن خلدون 152.
(8) نسبت القول هنا إلى بعض الإمامية وليس إلى جميعهم، لأني وقفت لبعضهم على نصوص توافق رأي الزَّيدية في الحكم على مناوئي الإمام علي، ومن ذلك قول الشريف المرتضى في (الشافي) 2/98 : «إنا لا ندعي علم الضرورة في النص لا لأنفسنا ولا على مخالفينا، وما نعرف أحداً من أصحابنا صرح بادعاء ذلك». وقال السيد كاشف الغطاء في (أصل الشيعة وأصولها 188): « ولا أقول : إنَّ الآخرين من الصَّحابة ـ وهم الأكثر الَّذين لم يتسموا بتلك السمة ـ قد خالفوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يأخذوا بارشاده، كلا ومعاذ الله أنْ يُظن فيهم ذلك، وهم خيرة مَنْ على وجه الأرض يومئذٍ، ولكن لعلَّ تلك الكلمات لم يسمعها كلُّهم، ومن سمع بعضها لم يلتفت إلى المقصود منها، وصحابة النبي الكرام أسمى من أن تُحلِّق إلى أوج مقامهم بغاث الأوهام » .
(9) وقال الإمام يحيى بن حمزة في (الانتصار) بعد ذكر اتفاق الشيعة على القول بالنص: «زعمت الإمامية والجارودية أنه نص جلي يعلم من ضرورة الدين دلا لته على إمامته».
(10) رواه: المرادي، وأبو طالب، والكوفي من الزَّيدية، ورواه مسلم، والنسائي، وأحمد، الحاكم، والبغدادي، وابن ماجة، وابن الأثير وغيرهم من المحدثين. وذكره الزبيدي في (لقط اللآلئ المتناثرة) من اثنين وعشرين طريقاً. وقال ابن حجر في (فتح الباري): «وأما حديث من كنت مولاه فعلي مولاه، فقد أخرجه الترمذي والنسائي وهو كثير الطرق جداً، وقد استوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد، وكثير من أسانيدها صحاح وحسان». وقال المقبلي في (الأبحاث المسددة): «فإن كان مثل هذا معلوماً وإلا فما في الدنيا معلوم». (11) رواه الإمام الهادي، وأبو طالب ومحمد بن سليمان الكوفي من الزَّيدية، ورواه البخاري، ومسلم، والترمذي وغيرهم عن أكثر من عشرين من الصَّحابة، وحكم بتواتره من المحدثين الحاكم النيسابوري، والسيوطي، وغيرهما. (12) انظر : كتاب المحيط بأصول الإمامة ـ مخطوط ـ 152. (13) العقد الثمنين 51. (14) الأساس: 168 و178 الطبعة الأولى.
writerw1@hotmail.com
أبو زيد بن عبد القوي
الجارودية .. إنتماء زيدي بأفكار إمامية(1-2 ) 3709