;

نقد العقل العربي :تكوين العقل العربي ..الحلقة «2» 2057

2010-07-19 04:57:24

صفحة من
كتاب


والحق أنه وراء ذلك التداخل بين
الفكر والايدويولوجيا يقوم تداخل آخر هو من صميم مفهوم "الفكر" نفسه: تداخل بين
الفكر كأداة لإنتاج الأفكار، والفكر بوصفة مجموع هذه الأفكار ذاتها، وهو تداخل
تعكسه كثير من اللغات، ومنها اللغة العربية المعاصرة.
إنه تداخل يشير بكل وضوح
إلى أن
هذا
التمييز الذي نقيمه نحن اليوم بين الفكر كأداة والفكر كمحتوى، تمييز مصطنع تماماً،
مثلما هو مصطنع ذلك التمييز الذي كان الفلاسفة القدماء يقيمونه بين العقل
والمعقولات إذ كانوا يعنون ب"العقل": القوة المدركة وب"المعقولات":

المعاني المدركة. . . ومع ذلك، وعلى الرغم من اقتناعنا بأن الفكر وحدة لا تتجزأ، إذ
ليست هناك قوة مدركة معزولة عن مدركاته، فإن التمييز بين الفكر كأداة والفكر كمحتوى
ضروري لنا، مثلما كان التمييز بين العقل والمعقولات ضرورياً بالنسبة للقدماء، ولكن
مع هذا الفارق، وهو أننا حينما نلح على ضرورة هذا التمييز فنحن إنما نصدر في ذلك عن
اعتبارات منجية ليس غير، أما فلاسفة القرون الوسطى فلقد كان الشاغل الذي جعلهم
يلحون على التمييز بين العقل والمعقولات شاغلاً ميتاً فيزيقياً بالدرجة الأولى "هل
العقل مفارق أو غير مفارق، هل للمعقولات وجود موضوعي مستقل أم أنها مجرد
أسماء؟. .
إلخ).
إن التداخل الصميمي بين الفكر كأداة والفكر كمحتوى واقعة لا
جدال فيها، إذا أخذنا بعين الاعتبار واقعة أخرى لا جدال فيها كذلك وهي أن الفكر
سواء بوصفة أداة للتفكير أو بوصفه الإنتاج الفكري ذاته، هو دوماً نتيجة الاحتكاك مع
المحيط الذي يتعامل معه، المحيط الاجتماعي الثقافي خاصة، سهل علينا أن نتبين مدى
أهمية هذا المحيط في تشكيل الفكر كأداة ومحتوى معاً، وبالتالي أهمية خصوصية المحيط
الاجتماعي الثقافي في تكوين خصوصية الفكر، وهكذا، فالفكر العربي مثلاً هو عربي، ليس
فقط لكونه تصورات أو آراء ونظريات تعكس الواقع العربي أو تعبر عنه بشكل من أشكال
التعبير، بل أيضاً لأنه نتيجة طريقة أو أسلوب التفكير ساهمت في تشكيلها جملة
معطيات، منها الواقع العربي نفسه بكل مظاهر الخصوصية فيه.
لنفض الطرف الآن عن
قضية العلاقة بين اللغة والفكر وعن خصوصية هذه العلاقة في الثقافة العربية الشيء
الذي سيكون موضوع فصل خاص ولننظر إلى الفكر ومنتجاته سواء تم التعبير عنها بهذه
اللغة أو تلك، ولنتساءل: هل يمكن إدراج كتابات وأطروحات كل من مكسيم رودنسون وجاك
بيرك وهملتون جيب وغيرهم من المفكرين غير العرب الذي تناولوا القضايا العربية
المعاصرة، أو قضايا الفكر العربي القديم بالدراسة والتحليل وإبداء الرأي. .
هل
يمكن إدراج النتاج الفكري لهؤلاء المستشرقين ضمن ما نسميه ب"الفكر العربي"؟
وبالمقابل هل يجوز، أو يمكن، إدراج آراء وأفكار بعض الكتاب العرب الذين يتناولون
باللغة الفرنسية أو الانجليزية قضايا أوروبية. .
هل يمكن إدراج نتاجهم الفكري ضمن
ما يسمى ب"الفكر الأوروبي"؟ إن هناك في العصر الحاضر قاعدة "عرفية" تتحدد بموجبها
"الجنسية الثقافية" لكل مفكر، هذه القاعدة تقتضي أن المثقف لا ينسب إلى ثقافة معينة
إلا إذا كان يفكر داخلها والتفكير داخل ثقافة معينة لا يعني التفكير في قضاياها، بل
التفكير بواسطتها، فقد يتم التفكير في قضايا ثقافة معينة بواسطة ثقافة أخرى، ومع
ذلك يبقى المفكر منتمياً إلى دون تلك، فالفارابي مثلاً فكر في قضايا الثقافة
اليونانية، هو مفكر عربي لأنه فكر فيها بواسطة الثقافة العربية من خلالها، ومثل ذلك
المستشرقون فهم سيظلون "مستشرقين" يطلبون الشرق لأنهم يقعون خارجه، أي يفكرون في
بعض العربية لأنهم يفكرون في قضاياها من خارجها، بل ومن خارج محيطها
الخاص.
وكذلك الشأن بالنسبة للمثقفين العرب الذي يتناولون قضايا انجليزية أو
فرنسية فإنهم يظلون عرباً ما داموا يفكرون فيها من داخل الثقافة العربي
وبوساطتها.
إنهم في هذه الحالة يعبرون عن وجهة نظر "عربية" في قضايا غير
عربية.
ولكن ماذا يعني بالضبط، التفكير بواسطة ثقافة ما؟ إنه سواء اعتبرنا
"الثقافة" تضم مختلف أنواع الإنتاج المادي والروحي ومختلف إنماط السلوط الاجتماعي
والاخلاقي، أو حصرنا معناها في الإنتاج النظري وحده، فهناك في جميع الأحوال، معطيات
تشكل، أو تعبر عن "الخصوصية الثقافية" لهذا الشعب أو ذاك، لهذه الأمة أو تلك، وهي
خصوصية راجعة كما أشرنا إلى ذلك قبل، إلى المحيط الجغرافي والاجتماعي والثقافي الذي
يتحدد به شعب ما أو مجموعة من الشعوب.
وهذه الخصوصية تزداد أهميتها فيما نحن
بصدده إذا نظرنا إليها بوصفها نتاجاً تاريخيا ً يحمل عبر الزمن تصورات وآراء
ومعتقدات، وأيضاً طرائق في التفكير وأساليب في الاستدلال قد لا تخلو هي الأخرى من
الخصوصية.
بل إننا لا نبالغ إذا قلنا أن الجزء الأكبر من خصوصية ثقافة ما إذا
جاز تجزئة الخصوصية إلى أجزاء إنما يرجع إلى التاريخ الخاص بهذه
الثقافة.
وإذن، فالتفكير بواسطة ثقافة ما، معناه التفكير من خلال منظومة مرجعية
تتشكل إحداثياتها الأساسية من محددات هذه الثقافة ومكوناتها، وفي مقدمتها الموروث
الثقافي والمحيط الاجتماعي والنظرة إلى المستقبل، بل والنظرة إلى العالم، إلى
الكون، والإنسان، كما تحددها مكونات تلك الثقافة.
وهكذا، فإذا كان الإنسان يحمل
معه تاريخه شاء أم كره، كما يقال، فكذلك الفكر يحمل معه، شاء أم كره، آثار مكوناته
وبصمات الواقع الحضاري الذي تشكل فيه ومن خلاله.
نستطيع الآن أن نحدد مفهوم
"العقل العربي" كما سيتناوله التحليل والفحص في هذه الدراسة، تحديداً أولياً،
فنقول: إنه ليس شيئاً آخر غير هذا "الفكر" الذي نتحدث عنه: الفكر بوصفة أداة
للإنتاج النظري صنعتها ثقافة لها خصوصيتها، هي الثقافة العربية بالذات، الثقافة
التي تحمل معها تاريخ العرب الحضاري العام وتعكس واقعهم أ وتعبر عنه وعن طموحاتهم
المستقبلية كما تحمل وتعكس وتعبر، في ذات الوقت، عن عوائق تقدمهم وأسباب تخلفهم
الراهن.
أكيد أن هذا التحديد الأولى لموضوع هذه الدراسة لا يبعد من الميدان جميع
التساؤلات السابقة، ومع ذلك فنحن لا نشك في أن هذا التحديد - مع كل عيوبه - يخطو
بنا خطوة هامة إلى الأمام ، خطوة تنقلنا من مجال التحليل الإيديولوجي إلى مجال
البحث الايبيستيمولوجي: البحث الذي يتخذ موضوعاً له أدوات الإنتاج الفكري لا منتجات
هذه الأدوات ، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الملاحظات السابقة كافية، في نظرنا ،
لتجعل القارئ يطمئن إلى أننا لا نقصد ب"العقل العربي" شيئاً "خارقاً للعادة" ،
كذلك الشيء الذي نسميه أحياناً ب"العبقرية العربية" أو بأسماء أخرى لا مجال
لتعدادها هنا ، كما إننا لا نقصد ب"العقل العربي " شيئاً "دون المستوى" ، مستوى
عقل آخر قد ينتمي إلى "عبقرية" أخرى حقيقية أو موهومة، وبالمثل فإننا عندما وصفنا
الانتقال من التحليل الايديولوجي إلى البحث الايبيستيمولوجي بأنه "خطورة إلى
الأمام"، فإننا لا نصدر في ذلك عن أي اعتبار غير الاعتبار الذي تصدر عنه هذه
الملاحظات.
نعني بذلك تقريب القارئ إلى موضوع هذه الدراسة ، إن وجهتنا ليست
إصدار أحكام قيمة من هذا النوع، إن وجهتنا الوحيدة هي التحليل "العلمي ل"عقل" تشكل
من خلال إنتاجه لثقافة معينة ، وبواسطة هذه الثقافة نفسها : الثقافة العربية
الإسلامية، وإذا كنا قد وضعنا كلمة "العلمي" بين مزدوجتين، فذلك إقراراًَ منا منذ
البداية بأن هذا البحث لا يمكن أن يكون علمياًَ بنفس الدرجة من العلمية التي نجدها
في البحوث الرياضية أو الفيزيائية، إن الموضوع هنا هو شيء منا ، أو نحن شيء منه ،
فنحن أبينا أم رضينا مندمجون فيه، وكل أملنا هو أن نتمكن، في هذا البحث ، من الصدور
عن الالتزام الواعي لا عن الاندماج المشيء للفكر المعطل للعقل.
أما مسألة ما
"الذي سندرسه هو "العقل العربي" كما كان بالأمس- أي أمس - أو" العقل العربي" كما هو
"اليوم" فهي مسألة نفضل السكوت عنها مؤقتاً. .
أن الفصول القادمة ستقدم ما يكفي
من العناصر الضرورية للجواب، مع الوعي بما قد يترتب عن ذلك من نتائج. .
أما الآن
فلنخط خطوة أخرى نحو تحديد أدق لموضوعنا.
-2- لقد استبعدنا مضمون الفكر العربي-
الآراء والنظريات والمذاهب وبعبارة عامة الايديولوجيا - من مجال اهتمامنا وحصرنا
محاولتنا هذه في المجال الايبيستيمولوجي وحده.
فقلنا أن ما نريد تحليله وفحصه هو
الفكر العربي بوصفه أداة للإنتاج النظري ، وليس بوصفه هذا الانتاج نفسه "نقصد
"النتاج" بمعنى "المنتوج"، ولكن هل يكفي استبدال كلمة "فكر" بالمعنى الذي حددناه
قبل بكلمة "عقل" في تحديد مضمون هذه الأخيرة وتبرير نسبتها إلى العرب والقول
بالتالي ب"عقل عربي"؟ إن ترجمة كلمة "عقل" بعبارة "الفكر بوصفه أداة للتفكير " ،
وربط "عروبة " هذا العقل بالثقافة التي ينتمي إليها ، الثقافة العربية الإسلامية،
خطوة أولى ، ما في ذلك شك نحو تحديد مفهوم" العقل العربي" كما نستعمله هنا، هي خطوة
أولى لا لأنها تجيب عن الأسئلة الجانبية التي سبقت إثارتها في مستهل هذا الفصل ، بل
لأنها تطرح أسئلة بديلة أكثر التصاقاً بالموضوع وأكثر تعبيراً عن تعقيداته، إن
بوسعنا الآن أن نتساءل : إذا كنا نعني ب"العقل" : الفكر بوصفه أداة وليس بوصفه
محتوى ، فهل معنى ذلك أن "العقل" خال من كل محتوى؟ بل هل الفكر بهذا المعنى ، أي
بوصفه أداة لا غير خال هو نفسه من كل محتوى ؟ أو ليست الأداة - أي أداة - عبارة عن
" شيء" مركب، ولابد ؟ أو ليست كل أداة مهما صغرت عبارة عن جهاز أو بنية ؟ ثم ألا
يمكن التمييز في كل أداة أو جهاز بين الفاعلية وما منه قوام هذه الفاعلية ؟ إن
الأداة التي نحفر الأرض بها - الفأس مثلاً- تستمد هويتها ، ولنقل ماهيتها ، من
فاعليتها : الحفر ولكنها تستمد قدرتها على الحفر من أجزائها وطريقة تركيبها وأيضاً
من أسلوب استعمالها. .
أفلا ينطبق هذا على "أداة التفكير" سواء سميناها "الفكر"
أو "العقل"؟

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

سيف محمد الحاضري

2024-10-14 03:09:27

القضاء المسيس ..

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد