حصار صنعاء 1967 1968
في هذا الأثناء حاولت الانتقال وبصعوبة إلى " بوعان " السوق حتى أطمئن الحملة بفشل الكمين لمن قد أدرك ما حدث، وبدأت بتناول وجبة الغداء مع مجموعة من الأفراد وقبل أن تصل أية لقمة إلى فمي مما كان قد أعد من غداء من تلك الذبائح التي قدمها أهالي يازل وبينما تلك اللقمة ما زالت في يدي والسماء مليئة بالسحب والمطر ينهمر بغزارة لدقائق وإذا بحركة تصاحبها أصوات فيها شيء من القلق وعند الاستفسار من السائقين القريبين مني عن سبب تلك الحركة قيل لي أن الناقلات تعود للوراء بحسب تعليمات القائد. أخذت نفسي وغادرت فورا عائداً إلى التجويف الترابي مروراً بالقافلة وأعطيت توجيهات بعدم العودة لأي ناقلة من القافلة على الإطلاق أو أي قطعة من الأسلحة التي تتقدمها وأن يستمر كلا في مكانه دون ما أي حركة مها كانت الظروف. لم يكن للقذائف والرصاص الذي كان يتساقط إلا تأثير ضئيل جداً ولم يؤدي إلا إلى استنزاف ذخائرهم التي كانت مخزونة في الحبال والتي يتم إطلاقها على تجمع القائد وطلائع القافلة كان لإيصال قافلة الإمداد والتموين إلى صنعاء المحاصرة أهمية كبرى حتى تستطيع العاصمة الصمود في ذلك الوضع الخطير وفي هذا اليوم وبعد تلك الأحداث أجبرت على اتخاذ القرار بأن يتوقف برنامج العمل بشأن القافلة وأن تثبت في مكانها لبقية ذلك اليوم، على أن يتم مواصلة الخطط والأعمال في العمليات الحربية التي كانت تسير سيراً موفقاً وحسب برنامج العمل الذي وضع في اليوم السابق والذي كان يتضمن معارك السابع والثامن من فبراير 1968م والتي سيتم من خلالها احتلال آخر مواقع العدو والإستراتيجية في أعالي قمم جبل النبي شعيب. وأثناء بقائي في الكهف فيما بين الظهر والعصر كانت حرارة جسدي قد بدأت بالارتفاع بالإضافة إلى الآلام الشديدة التي لا تحتمل في قدمي المصابة مؤدية إلى صعوبة في السير وبالرغم من ذلك الألم الذي لا يطاق كان فكري مشغولاً في قضايا عديدة وإذا بي أفاجأ بوصول المقدم / محمد الفقية مسئول المخازن في الحديدة كان يسأل عن الوضع للاطمئنان وكان الموقف صعباً جداً كنا نشاهد القذائف الثقيلة للعدو تتساقط أمامنا ولكن ولحسن الحظ كانت هناك العديد من المدرجات الزراعية تساعد على امتصاص قوة تلك القذائف وكان تأثيرها سواء على الأفراد أو المعدات والناقلات ضئيل للغاية مقارنة بحجم وكثافة تلك الزخات المتواصلة من أنواع القذائف.
وفي خضم ذلك الموقف الحرج والدقيق " ، عدت لبعض الذكريات أثناء تواجد الأخوة المصريين وهم يؤدون الواجب في الدفاع عن ثورة اليمن وأثناء فترة الاختلافات والخلافات الحادة التي تسببت في أمور يطول الحديث عنها وليس موقعها هنا ، تذكرت منها السجون التي كانت موجودة وقد كان المقدم محمد الفقيه ضمن الذين سجنوا في تلك الفترة فسألته: "هل صحيح أنهم كانوا يقومون بتعذيبكم في السجون؟" وكانت إجابته صريحة وواضحة " نعم" قلت له" هل جربت هذا التعذيب بنفسك ومورس عليك؟ أم كان يقال لك ذلك؟" فأجاب "لقد مروس معي بالفعل" فسألته " هل لا تزال هناك أي أثار في جسدك لهذا التعذيب؟" فقال: "نعم" فقلت له "هل يمكنيي مشاهدتها؟ " فأراني إياها. وشاهدت آثار التعذيب فعلا على جسدة وبعد مغادرته في نهاية اللقاء عائداً إلى الحديدة إذا بذلك الحديث وما تعرض له في السجن وما صاحب ذلك من متاعب إذا بذلك كله يجعلني أشعر بأن جسدي ومشاعري قد امتلأت بطاقة جديدة متناسياً تلك الآلام الشديدة التي كنت أشعر بها في قدمي وارتفاع درجة حرارتي، ساعدتني تلك المقابلة في الرفع من معنوياتي التي كانت قد تأثرت نوعاً ما من ذلك العمل العنيف والشديد والقاسي وفي الساعات الأخيرة من الوصول إلى صنعاء المحاصرة، وإذا بكل تلك المتاعب قد خفت وأصبح هناك لدي قوة جديدة ساعدتني على وضع برنامج عمل جديد للقافلة إلى جانب خطط العمليات الحربية التي كانت تسير سيراً حسناً وكما كان مخططاً لها بمواصلة طلقات الأسلحة الثقيلة وبكثافة وباشتراك جميع المجموعات إلى ما قبل حلول الظلام مع بقاء فوهات المدافع مصوبة إلى أعلى القمم فيما لو طلب منها المشاركة أثناء الظلام وحتى ينتهي الأستيلأ على تلك القمم. وكما سبق الاتفاق مع الفريق العمري فإن ظهور طلقات مضيئة حمراء على قمم جبل النبي شعيب هي إشارة لإصداره الأوامر إلى مرتب "حسن مند" لإطلاق طلقات حمراء مضيئة لتلتقي مع طلقات الأسلحة الثقيلة التابعة للحملة الرئيسية من موقعها في "بوعان" مما سيؤدي إلى إصابة العدو بالهلع وبالتالي التأثير على معنوياته القتالية.
لقد أراد الله سبحانه وتعالى أن تكتب السلامة للقائد ومن معه وأن لا تصاب قافلة الإمدادات والتموين بالخسائر وحل ظلام يوم 7/2/1968م.
الوصول إلى متنة ودخول القافلة العاصمة صنعاء:
بين حوالي الساعة الثانية والثالثة من صباح يوم 8/ 2/ 1968م كان بدء حركة كتيبة المشاة الهجومية نحو مواقع الأعداء في أعالي قمم جبل النبي شعيب وتمكنت بين أذان الفجر وشروق الشمس تقريباً من الاستيلاء على آخر قمة من تلك القمم والتي تعتبر آخر مواقع الأعداء في جبل النبي شعيب.
كما كانت الحركة لبقية قوات الحملة وقافلة الأمداد والتمويل قبل الفجر من جسر عصيفرة ومغادرة قرية "يازل" إلى منطقه "متنه" محفوفة بالمغامرات فقد بدأت المسيرة بقطع من الأسلحة الثقيلة يتبعها قافلة الإمداد والتموين ويتقدم الجميع القائد مع مجموعة صغيرة ممن شاركوا في الحملة.
وأثناء التحضيرات والتفاعلات وقبل التحرك إلى "متنه" والساعة تقريباً بين الثالثة والرابعة صباحاً من يوم 8/ 2/ 1968م ، أصبحت بإغماء لما يقارب العشرين دقيقة استيقظت بعدها لأجد نفسي غارقاً في بركة من العرق، ومع ذلك ولصعوبة الموقف تحاملت على نفسي وأصدرت الأوامر للقافلة بالتحرك إلى "متنه" وقرية" يازل" ما جعلنا نسلك طريق بدائي مؤقت بدلاً عن ذلك الجسر وكان معنا الأخ/ أحمد الجرموزي بسياراته.
وقبل بدء التحرك تم الاتصال بالنقيب / أحمد العواضي ليرسل قوة مكونة من فصيلة فأكثر لتتقدم القافلة وكانت الاستجابة سريعة مصحوبة بنصيحة فيها الرجاء بعدم التسرع حتى ترسل إلينا الفصيلة أو سرية من المشاة للاستطلاع وجس نبض الطريق والكمائن من الألغام وغيرها ولكن وكما يقول المثل "أطرق الحديد وهو ساخن ليسهل تشكيله".
ولأن المباغتة والسرعة في معظم الأوقات تحقق مكاسب كبيرة ضد الأعداء فقد واصلنا التحرك، وقبل أذان الفجر بدقائق كنت قد وصلت متنه مع بعض قطع من الأسلحة الثقيلة التي كانت تسير خلفي نزلت من المصفحة مع الحارسين والأخ/ محمد قائد عنقاد وخلفنا الأخ/ محمد مريط ومعه فردين أو ثلاثة لا أتذكر أسماءهم، وكانت يدي على زناد البندقية والهدوء يسود المنطقة إلا من همسات خفيفة لعدد من سكان القرية الذين كانوا يغادرونها فارين منا.
كان أمامنا منزلاً صغيراً أتضح انه خال تم فتح بابه بسهوله وصعدنا إلى ذلك المنزل وبعد أذان الفجر انطلق صوتي مع الحارسين والمرافق بالتناوب مخاطباً السكان الفارين قائلين لهم "أنتم بأمان الله"، ويقول القائد "أنتم بأمان الله والثورة والجمهورية" عودوا إلى منازلكم لتقوموا بتقديم المساعدة والعون لطلائع القافلة من السيارات والنقالات لإمداد والتموين ومن سيسمع النداء ويعود سريعاً سيتم منحه كيساً من الدقيق والقمح ومن تأخر فلا يلوم إلا نفسه. كانت الظروف تحتم علينا ذلك ولكن الحمد لله استجابوا للنداءآت وعادوا إلى منازلهم.
ومع شروق شمس ذلك الصباح بدأت أشاهد من خلال نافذه صغيرة من المنزل الصغير الذي كنت فيه أتأمل جانباً من وادي "سهمان" ذو المساحة الشاسعة وإذا بي أشاهد بعض تجمعات صغيرة من الناس قادمة من خارج "متنه" لتأييد الثورة والجمهورية معبرين عن ذلك بإحضار بعض الأغنام والعجول الصغيرة متوجهين ناحية قرية "متنه" باحثين عن القائد ليقدموا ولاءهم مصحوبا بكلمات فيها شيء من الخوف، كنت حينها قد بدأت أشعر بألم شديد في قدمي وبدأت بالتورم، ولا زال الناس يقدمون الأغنام كعرف يمني كانت هذه المناظر والمشاعر تساعد على تخفيف تلك الآلام وقمنا بمنحهم بعض الكميات الصغيرة من الدقيق والحبوب والزيوت إكراما لهم ووعدناهم بالأمن والأمان بإسم الثورة والجمهورية.
وقد كنت أشعر بسعادة بالغة يمكنني أن أقول بدون مبالغة إنني كنت أسعد رجل في العالم، لوجود الحملة وقافلة الإمداد والتموين في منطقة "متنه" التي كنت أعتبرها تشبه إلى حد كبير الأماكن التي يتم التهيئة فيها للعمرة على الطريق إلى مكة، كما كنت أشبه صنعاء بمكة مع الفارق، عند وصول الإمداد والتموين إلى قصر السلاح والذي منه يتم التوزيع للقوات المقاومة والصامدة وسكان العاصمة.
هذا من جهة ومن جهة أخرى أصبح وجود الحملة في متنه برهاناً واضحاً وساطعاً ودليلاً قاطعاً على أن ثورة سبتمبر ثورة شعبية أصيلة أصالة الحياة، وإذا بالقاضي عبد السلام صبره ومعه الأخ فتحي الأسودي مع آخرين من الحرس وصلوا من صنعاء بعد ملاحظتهم رشقات من الطلقات البعيدة يقدمون التهاني بوصول الحملة وكان السؤال عن دم وصول الفريق العمري بحسب الاتفاق، وكانت الإجابة أنه لا يزال في بيت نعامه، وقد أصبح المستحيل حقيقة ناصعة حيث تحققت المعجزة الثانية في فك حصار السبعين بعد أن تحققت المعجزة الأولى بتفجير ثورة 26 سبتمبر.
وبعد أن كان الأعداء بل والعالم كله يتوقعون انتصار الحصار أصبحوا الآن في ذهول من تحقيق معجزة الانتصار على الحصار وفرضت اليمن احترامها على العالم كله الذي كان يعتقد أن بقاء الثورة والجمهورية مقرون بوجود الجيش المصري.
في هذه الأثناء كانت قافلة الإمداد والتموين تواصل توافدها وتجمعها في الساحات التي تم تخصيصها لتلك القوافل في منطقة متنه في انتظار وصول بقية القافلة ومؤخرة الحملة، تم الانتصار في متنه إلى أن وصل بقية المشاركين ظهر ذلك اليوم وتوجهنا جميعاً مع قافلة الإمداد والتموين إلى العاصمة صنعاء وعلى وجه التحديد إلى قصر السلاح.