وحينها كان العقيد علي سيف الخولاني المعين بعد حركة 5 تشرين الثاني/ نوفمبر1967 رئيساً للأركان ، ولم يهرب من صنعاء وهو القائد البطل الذي دافع عن حجة عقب اندلاع الثورة، بل كان مريضاً في القاهرة، ولم يأت ليتسلم مسؤولية من القاهرة، وعن الأخ حمود بيدر خلفاً له في القاهرة ولم يكن له دور في حصار السبعين، ومن وجهة نظرنا كان مقصراً في أداء واجبه في مرحلة الحصار، وكنا عاتبين عليه لأنه لم يأت ليتسلّم مسؤولية،وكان الأخ العقيد حمود بيدر قد عُين خلفاً له.
وفي بداية شباط / فبراير بدأ الهمز واللمز حينما أصبحت القوات في بني مطر قريب متنة،فكان بعضهم يقول : الفريق العمري بطل السبعين يجب أن يكون الرئيس بدلاً من القاضي عبدالرحمن الإرياني، وكنت مع عدد من الزملاء نرفض هذا الكلام جملة وتفصيلاً، والفريق نفسه لم يفكر في هذا الأمر مطلقاً، لكن جهات مسيّسة أرادت أن تشق العصا، وتثير خلافاً بين الرجلين العظيمين.
وكنت مع الإخوة محمد الخاوي، وعبدالله الراعي، وحمود بيدر، ومحمد شائف جار الله، وعددٍ آخر من الضباط ضد شق الصف القيادي في رئاسة الدولة، لأن هؤلاء الجهلة يعرفون أن للرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني دوراً سياسياً وموجهاً، وهو الذي من دوره العظيم فتحُ طريق الحديدة صنعاء، وهو الذي جمع الصف الجمهوري في جبهة واحدة، وكان لصلاته السياسية بسورية والاتحاد السوفيتي أثرها في دعم الجمهورية بالأسلحة والمعدات والطيارين ووجه الشيخ البطل أحمد عبدربه العواضي بالتحرك لفتح طريق صنعاء الحديدة مع قبائل لواء البيضاء. وآل عواض كان لدورهم البطولي العامل الأساسي في فتح الطريق ،وكذلك وجه عدداً من المشائخ والوحدات العسكرية الموجودة في الحديدة ومنهم الشيخ سنان أبو لحوم والنقيب نعمان بن قايد بن راجح،والمقدم أحمد صالح دويد للمشاركة في فتح الطريق مع الشيخ أحمد العواضي وقبائلهم، وكلف العميد عبداللطيف ضيف الله بالمشاركة في الحملة وتولي مسؤولية الإدارة والتموين لتلك الحملة مع الأخ المقدم أحمد المتوكل.
محاولة شق الصف
كان يتبنى محاولة الخلاف بين الزعيمين عدد من الإخوان الحركيين المدنيين في المقاومة الشعبية ومعهم من العسكريين المرحوم عبدالرقيب عبدالوهاب قائد الصاعقة، وحمود ناجي قائد المظلات وبعض الضباط الذين حاولوا أن يثيروا الفريق العمري ضد الرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني،ولم يكن الفريق حسن العمري في الواقع يطمح إلى أن يحتل منصب الرئاسة، لكن بعض الإخوان الحركيين حاولوا استغلال النصر لكي يحققوا مصالحهم الحزبية الضيقة بشق الصف الوطني الجمهوري اعتقاداً منهم بأنهم سيحققون طموحهم بالاستيلاء على السلطة.
ولأهمية هذا الوضع، ونحن على وشك الانتصار بفتح طريق الحديدة صنعاء، طلبنا من الفريق حسن العمري السماح لنا بالنزول إلى الحديدة لزيارة القاضي عبدالرحمن الإرياني، واستأذنا كذلك الرئيس نفسه بالسماح لنا لكي نعرض عليه بعض الأمور الهامة والتطورات العسكرية والسياسية ونبشره بالنصر القريب.
فنزلنا إلى الحديدة وشرحنا له المحاولة البائسة لشق الصف لأننا نحترم الرئاسة ولا يجوز أن نقوم بأدوار غير أخلاقية بين قادة العمل الوطني، فهذا ليس من أخلاق الرجال،ولا من شرف وأمانة العمل والمسؤولية، وفور وصولنا قابلنا الرئيس، وشرحنا له الموقف العسكري وتباشير النصر الذي أصبح على الأبواب، وكذلك شرحنا الموقف السياسي، وما يحاك ضدا لنظام والدولة من محاولات لشق العصا، وبحكمته وبعد نظره أجابنا جواباً مختصراً وقال : علينا أن نعالج الأمور بحكمة وهدوء وبالعمل السياسي، لأنكم أجنحة الفريق العمري وقوته، وبغير مشاركتكم لأي عمل من هذا النوع لن يستطيع الفريق أن يعمل شيئاً، ومن يحرضونه سوف يستخدمونه لأغراضهم الحزبية، وينقلبون عليه عاجلاً أو آجلاً.
وأضاف القاضي: أنا سوف أحملكم رسالة للأخ حافظ الأسد وزير الدفاع السوري لكي تذهبوا لتسليمها وسيكون ذهابكم على طائرة خاصة، وسوف ينصح الفريق نظراً لعلاقته معه، وبينهما من الاحترام القدر الكبير، وإذا كان هناك من يحاول أن يثيره أو يغير موقفه الأخوي والتعاون الذي بيننا فالأسد هو القادر على نصحه بما يخدم استقرار النظام الذي يواجه أعداءه، وما زال الخطر محيطاً بنا ويحتاج إلى وحدة الصف والموقف.
لقد كانت الفكرة حكيمة بذهابنا إلى دمشق، وهي تدل على حكمة الرئيس وعظمة وسعة صدره.
ذهبت مع الأخ محمد الخاوي والأخ عبدالله الراعي والأخ حمود بيدر وتأخر محمد شائف جار الله لأهمية وضعه في القوات الجوية، وقد استغل سفرنا بعض الضباط الحركيين، وأثاروا إشاعات بأننا تركنا الواجب أو هربنا، وربما علموا بأهمية الذهاب إلى دمشق، فحاولوا تشويه سمعتنا بما لا يصدقه أحد إلا من له غرض أو كان مريضاً في عقله.
غادرنا الحديدة في 4 شباط /فبراير 1968 وسقط عيبان في 6 شباط / فبراير، وألقى الفريق العمري خطاباً في الحديدة بعد فتح الطريق في 8شباط/فبراير.. ولدينا البرقيات تدل على أننا غادرنا صنعاء بعد 65 يوماً من حصارها ونحن ندافع عن عاصمة الثورة، ونحن القادة نعرف بأن قواتنا أصبحت قريبة من صنعاء، فهل من المعقول في آخر لحظة أن نسلم النصر لهؤلاء الحاقدين؟؟ ونقول : تفضلوا النصر لكم استلموه!هذا كلام غير منطقي، لكن هناك من يريد أن يستخدمه استخداماً سياسياً بلا ضمير ولا أخلاق.
وعند وصولنا إلى دمشق استقبلنا الفريق حافظ الأسد بكل ود، وسلمنا له الرسالة، وأرسل لنا مندوباً خاصاً إلى الفريق، وكنا خلال إقامتنا في دمشق نزوره بين حين وآخر في وزارة الدفاع، وبلغنا أنه يتواصل مع الأخ الفريق حسن العمري، وفعلاً قام بواجبه ونصحه بما تضمنته رسالة الرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني. وخلال أسبوعين وصل الفريق العمري إلى القاهرة يقدم الشكر والامتنان للقيادة المصرية وللرئيس جمال عبدالناصر، وكان موقفاً أخلاقياً وعظيماً من قائد النصر للرئيس جمال عبدالناصر، واعترافاً بالتضحيات المصرية التي كانت عاملاً من عوامل الصمود والنصر في حصار السبعين وخلال الزيارة اتصل الفريق العمري بالفريق حافظ الأسد وقال له: أرجو أن ترسلوا الإخوان الذين لديكم إلى القاهرة.
وذهبنا إلى القاهرة في آخر شباط/ فبراير وعدنا إلى اليمن في أوائل شهر آذار/ مارس 1968م مع الفريق حسن العمري رئيس الوزراء والقائد العام.
هذه الحقائق التي لا تقبل التشويه أو التزوير ذكرتها أول مرة رغم أن تلك الإشاعات التي أثارها الحاقدون لم تؤثر فينا، لأننا نحن من صنعنا الثورة ودافعنا عنها ونحن أصحاب التاريخ الذي حقق الانتصار في السبعين وقبلها وبعدها، إلى أن استقر السلام في بلادنا، ورفعنا أعلام الجمهورية على ربوع الوطن.
أحداث الحديدة
إن الفشل الكبير في إثارة الخلاف بين زعماء الوطن تحول إلى إثارة الفوضى في الحديدة تمثلت فيما قامت به المقاومة الشعبية في أوائل آذار/ مارس 1967م من المظاهر والمشاغبة وقطع طريق الميناء ومحاولة تسليم المعونة العسكرية السوفيتية إلى وحدات المظلات والصاعقة التي حدث الصراع عليها في ميناء الحديدة وسوف أتحدث عن تفاصيل الحادث.
لقد أشاع الحاقدون بأننا تركنا القتال وهربنا إلى سورية، فلم يكونوا يعرفون أن المهمة كانت لإحباط تآمرهم، فحاولوا استغلال الموقف، وتكلموا على الضباط الكبار الذين يشهد لهم التاريخ بثباتهم وصمودهم في كل المعارك، هذه هي الحقيقة، ليس من باب الدفاع عن أنفسنا، وإنما نحن نسجل تاريخاً بأحداثه، وضباط الثورة الذين استشهدوا في كل المعارك ومنهم الطيار محمد الديلمي وسعد الأشول وأحمد الكبسي وغيرهم لا يحتاجون إلى شهادة الحاقدين على بطولاتهم.
لقد ذهبنا في مهمة سياسية لإبعاد اليمن من صراع سياسي وانقلاب على القاضي الرئيس عبدالرحمن الإرياني، وتمكنوا من إقناع الفريق، بتعيين عبدالرقيب عبدالوهاب رئيساً للأركان، وكان ما كان من صراع بين القوى المعتدلة أو القوى الجمهورية الواعية، وبين القوى الحزبية "الحركيين" التي تسعى إلى الاستيلاء على السلطة والتي ستعيدنا إلى مرحلة الانقلابات، وكما ذكرت، بعد أن فشلوا في هذا الموقف فجروا أحداث 5 آذار/ مارس المحزنة والمؤسفة في الحديدة، بفوضى المقاومة الشعبية والعمل التحريضي لحركة القوميين العرب الذين يسعون إلى الاستيلاء على السلطة بأي وسيلة.<