;

صلاح الدين الأيوبي.. وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس.. الحلقة الـ«110» 1002

2009-01-11 04:56:50

المؤلف/ علي محمد الصلابي  

المرحلة السادسة : كانت المرحلة السادسة والأخيرة من المفاوضات طويلة ومعقدة فقد استمرت حوالي خمسة شهور. وفي 22 شعبان عام(588ه/ 2أيلول عام 1192م) حمل رسل صلاح الدين العرض النهائي فوقعه ريتشارد قلب الأسد وأثبت هؤلاء أسماءهم إلى جانب اسمه على المعاهدة التي تنص على ما يلي:

- يكون للصليبيين المنطقة الساحلية من صور شمالاً إلى يافا جنوباً بما فيها قيسارية وحيفا وأرسوف.

- تكون عسقلان بأيدي المسلمين، على أن يجري تخريبها.

- يتقاسم المسلمون والصليبيون، اللد والرملة، مناصفة.

- يحق للنصارى زيادة بيت المقدس بحرّية.

- للمسلمين والنصارى الحق في أن يجتاز كل فريق منهم بلاد الفريق الآخر.

- مدة المعاهدة ثلاث سنوات وثلاثة أشهر.

واشترط صلاح الدين دخول بلاد الحشيشية في الصلح، بمعنى أن المناطق التي يسيطر عليها هؤلاء تُعدُّ جزءاً من المناطق الإسلامية التي شملتها المعاهدة، وفي المقابل اشترط ريتشارد قلب الأسد دخول كل من صاحب أنطاكية وطرابلس.

ولما تمت الهدنة أذن صلاح الدين للصليبيين بزيارة بيت المقدس واختلط عسكر المسلمين بعسكر الصليبيين وذهبت جماعة من المسلمين إلى يافا في طلب التجارة، كما وصل خلق عظيم من الصليبيين إلى القدس للحج، وأنفذ صلاح الدين الخفراء يحفظونهم وغرضه من ذلك أن يقضوا وطرهم من الزيارة ويرجعوا إلى بلادهم.

- نتائج الحملة الصليبية الثالثة وأهم الأحداث قبل وفاة صلاح الدين :

1. برحيل ريتشارد قلب الأسد إلى بلاده، بعد صلح الرملة بلغت الحملة الصليبية الثالثة نهايتها، فلن يتوجه إلى الشرق الأدنى الإسلامي مرة أخرى، هذا الحشد من الملوك والأمراء ومع أن أوروبا الغربية اتحدت في ذلك العمل ، وجهزت حملة كانت من أكبر الحملات الصليبية، فإن ما حصلت عليه من نتائج كان ضئيلاً وما حدث من إنقاذ صور على يد كونراد دي مونتفيرات، ومن نجدة طرابلس من قِبل الأسطورة الصقلي، إنما جرى قبل وصول أفراد الحملة الصليبية الثالثة، وكل ما أسهم به هؤلاء لم يتعدّ الاستيلاء على عكا والمدن الساحلية حتى يافا، فضلاً عن جزيرة قبرص، على أن أمراً واحداً قد تحقق هو توقف نشاط صلاح الدين في الفتح.

2. يعد المؤرخون الحملة الصليبية الثالثة من الحملات الفاشلة في تاريخ الحروب الصليبية لأنها لم تحقق من النتائج ما يتناسب مع ما بُذل من جهد ضخم فضلاً عن أنها لم تنجح في تحقيق الهدف الذي جاءت من أجله وهو استعادة بيت المقدس من يد المسلمين.

3. شاركت الظروف السياسية والعسكرية التي واجهت هذه الحملة وأحاطت بها في هذه النهاية الفاشلة، إذ ليس في استطاعة جيش تجرّد من القيادة الموحدة، وفرّقته المنازعات السياسية، وقاتل في أرض أجنبية، أن يحرز النصر على جيوش جمع بينها وحدة الصف والهدف، وانضوت تحت قيادة رجل واحد مثل صلاح الدين.

4. كان من بين عوامل الفشل أن ملكي إنكلترا وفرنسا حملا معهما إلى الشرق ما بينهما من منازعات سياسية محلية، على الرغم من اتفاقهما على التغاضي قبل أن يتحركا من أوروبا الغربية.

5. اختلف الطابع الروحي للحملة، إذ لم يكن للبابا دور كبير في توجيهها، كما حدث في الحملة الصليبية الأولى، وطغى عليها الطابع السياسي بما يحمل من خلفيات متناقضة.

6. استمر تماسك الجبهة الإسلامية بعد أن اختفت المنازعات الدينية والسياسية على الرغم من تراجع قوة المسلمين العسكرية بسبب الإرهاق والتعب، إذ تحتّم على القوات الإسلامية بأن تقوم بأعمال عسكرية مستمرة مدة ثلاث سنوات وفي ظروف غير عادية، بالإضافة إلى ما حصل من تشنجات سرعان ما امتصها صلاح الدين بحكمته، نذكر منها النزاع الذي حصل بين العناصر التركية والعناصر الكردية في جيشه، ولولا رحمة الله ثم قيادة صلاح الدين لكانت الخسائر كبيرة وبشكل غير متصور، ولكن حسن قيادة صلاح الدين وصمود المسلمين في وجه هذه الحملة الشرسة أربك ملوك أوروبا وأفشل مخططاتهم ولم يستطيعوا إرجاع بيت المقدس، وهذا يعتبر انتصاراً عظيماً لصلاح الدين على الرغم من الخسائر التي لحقت بالمسلمين.

7. تميزت هذه الحملة الصليبية بحدوث تفاهم كبير مع المسلمين فكان الطرفان شديدي الصلة ببعضهما وتعدّى ذلك طرح مشروع المعاهدة، وإرسال الفواكه والثلج لريتشارد قلب الأسد أثناء مرضه وحضور طبيب صلاح الدين الخاص لمعالجته، وكان من هذا الاختلاط في حياة الفرنج ما يأتي:

أ. نقلوا عن المسلمين كثيراً من العلوم والمعارف التي كانت سائدة بينهم في تلك الفترة وقد ألفوا فيها كتباً احتوت كثيراً من التجديد والابتكار ووضع قوانين في هذه العلو.

ب. نقلوا عن المسلمين كثيراً من الصناعات والفنون مثل صناعة النسيج والصباغة والميناء والمعادن والزجاج كما نقلوا عنهم فن العمارة،وكان لهذا النقل تأثير عميق في حياة أوروبا الصناعية والتجارية والفنية ، يقوم جوستاف لوبون: ولم يكن تأثر الحروب الصليبية في الصناعة والفنون أقل من ذلك. . . ثم يقول : وعن المسلمين أخذت أوروبا صناعة النسائج الحريرية والصباغة المتقنة. . ولم يلبث فن العمارة أن تحول في أوروبا تحولاً تاماً.

ج. تأثرت الحضارة الغربية بالحضارة الإسلامية تأثراً أدى إلى نمو الحضارة الغربية وازدهارها، ولولا الحرب الصليبية لتأخر نمو الحضارة في أوروبا لمدة لا يعلمها إلا الله، ولقد اعترف المنصفون من المستشرقين بهذه الحقيقة قبل أن يقولها مؤرخو المسلمين.

يقول لوبون : ولكنا إذا نظرنا إلى النتائج البعيدة التي أسفرت عنها الحروب الصليبية، تجلت لنا أهمية تلك النتائج، فقد كان اتصال الغرب بالشرق مدة قرنين - أي مدة التواجد الصليبي في بلاد المسلمين- من أقوى العوامل على نمو الحضارة في أوروبا، وتكون الحروب الصليبية قد أدت إلى نتائج غير التي نشدتها، فأما الشرق فكان يتمتع بحضارة زاهرة بفضل المسلمين - وأما الغرب، فكان غارقاً في بحر الهمجية.

ذالكم هو ما أفادته أوروبا من الحروب الصليبية ، وهي ، وإن منيت بخسائر فادحة وهزائم قاتلة، لم تحقق الهدف الذي جاءت من أجله، وهو استعادة بيت المقدس من أيدي المسلمين، إلا أنها كسبت من وراء ذلك هذه المكاسب العظيمة التي نهضت بأوروبا وأسرعت في إيصال الحضارة إليها، وأما المسلمون فإنه لم يكن لدى الصليبيين ما يمكن أن يستفيد منه المسلمون ، فقد كانوا في سلوكهم وحوشاً ضارية، وكانوا ينهبون الأصدقاء والأعداء ويذبحونهم على حد سواء. ولقد صف أسقف عكا الصليبي (جاك دوفيتري) الغزاة بقوله : وكان لا يُرى منهم في أرض الميعاد غير الزنادقة والملحدين واللصوص والزناة والقتلة والخائنين، والمهرجين والرهبان والدّعار والراهبات العواهر، وكان مع الحملة الصليبية جيش العواهر الذي جلب خصيصاً للترفيه عن المقاتلين ، لم يقتصر على جنود الصليبيين، ولكن تعدى ذلك إلى صفوف الفجرة والفسقة من المسلمين، يقول ابن كثير: وإمداد الفرنج تصل من البحر من كل وقت حتى أن نساء الفرنج ليخرجن بنية القتال ومنهن من تأتي بنية راحة الغرباء، لينكحوها في الغربة، فيجدون راحة وخدمة وقضاء وطر، فإذا وجدوا ذلك ثبتوا على الحرب والغربة، حتى إن كثيراًَ من فسقة المسلمين تحيزوا إليهم من أجل هذه النسوة، واشتهر الخبر بذلك، وذكر المؤرخ أبو شامة من أنه حدث أثناء حصار الصليبيين لعكا: أن وصل مركب فيه ثلاثمائة امرأة فرنجية مستحسنة اجتمعت من جزر البحر، وانتدبن للجرائر، واغتربن لإسعاف الغرباء، وقصدن بخروجهن تسبيل أنفسهن للأشقياء، وأنهن لا يمتنعن عن العزبان، ورأين أنهن لا يتقربن بأفضل من هذا القُربان، وزعمن أن هذه قربة ، ما فوقها قربة ، ولا سيما فيمن اجتمعت فيه غربة وعزوبة، ويقول أيضا: وخرجت النساء للإسهام في الحملة الصليبية الثالثة فمنهن من خرج، وقد لبسن الدروع ،وكنّ في زي الرجال للاشتراك في المعارك بأنفسهن، لاعتقادهن أن ذلك عبادة، ومنهن من خرجن لإسعاف الغرباء، وإسعاد الصليبيين بتسبيل أنفسهن للاستمتاع بهن حتى لا يتسرب الملل إلى نفوس المحاربين.

8. فقه المصالح والمفاسد : جاء صلح الرملة بسبب ظروف عسكرية واقتصادية جعلت صلاح الدين يقبل به، مع علمه بأن الموقف الفرنجي كان ضعيفاً، فقد كانت تقديرات رجاله ومستشاريه بأن مغادرة القوى العسكرية الفرنجية إلى بلادهم هي من صالحهم، وإن بقاءهم سيؤدي إلى قدوم قوات أوروبية جديدة ستحدث الضرر بالمعسكر الإسلامي. وإذا نظرنا في تاريخ المعاهدات والاتفاقيات والهدن التي عقدها المسلمون مع الفرنج، كعماد الدين ونور الدين محمود زنكي، وصلاح الدين نلاحظ أنها كانت محددة الأهداف وهو إعطاء فرصة للقوات الإسلامية للاستعداد وزيادة إمكاناتها القتالية للقيام بجولة أو جولات قادمة ضد الفرنج ، ومعظم هذه الاتفاقات كانت بطلب من الفرنجة أنفسهم ، ولم يكن الزعماء المسلمون يتوانون عن عقدها، لما فيها من مصلحة لهم، إما لمحاربة إمارات أخرى لم تعقد معهم المعاهدات ، أو للتسهيل على المسلمين وحرية تنقلهم وسفرهم بين مصر وبلاد الشام، ولتسهيل مهمة تنقل القوافل التجارية عبر المنطقة العربية أو لتوفير الأمن والاطمئنان لقوافل الحجاج لأداء مناسك الحج دون خطر، وأما الصلح الأخير وهو صلح الرملة، فقد حدد بثلاث سنوات ، ووجد صلاح الدين ومستشاروه أن المصلحة في عقده بسبب سوء الأحوال الصحية التي ألمت بجنده بالإضافة إلى الإرهاق والتعب الذي عانوه، فكانوا يرون أنها فرصة للاستعداد لجولات ومعارك قادمة، فابن شداد يقول : ورأى السلطان ذلك مصلحة لما غشي الناس من ضعف وقلة النفقات والشوق إلى الأوطان. . . . فرأى أن يجمهم مدة حتى من يستريحوا وينسوا هذه الحالة التي صاروا إليها ويعمر البلاد ، ويشحن القدس بما يقدر عليه من الأسلحة ويتفرغ لعمارته، ويذكر ابن شداد كذلك أن صلاح الدين لم يكن راضيا عن هذا الصلح، ولكنه رأى المصلحة في الصلح لسآمة العسكر، ومظاهرتهم بالمخالفة، ويرى ابن شداد أن الصلح كان في مصلحة المسلمين لأن صلاح الدين توفي بعيد عقده، ولو اتفقت وفاته أثناء المعارك المحتدمة بين المسلمين والفرنج، لكان الإسلام على خطر، فما كان الصلح إلا توفيقاً وسعادة.

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

أحمد عبدالملك المقرمي

2024-11-29 03:22:14

نوفمبر المتجدد

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

سيف محمد الحاضري

2024-10-14 03:09:27

القضاء المسيس ..

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد