بدأت الهوة تضيق وتتسع في ذات الوقت، هكذا يقول البعض وهم يتأملون واقع الثقافة العربية التي انكفأت على مضغ بعض المصطلحات المحدودة ومراجعتها وتداولها حتى أصبحت عناوين بارزة في المشهد الثقافي العربي.
"الحداثة" أبرز تلك العناوين التي حفرت نفسها في صخر الثقافة العربية، التي باتت رهينة لمستقبل فرضته متطلبات العولمة وطلائع المبشرين بواقع جديد لشكل ومضمون الثقافة العربية التقليدية التي ظلت لقرون طويلة تنهل من مصادر التراث وكتبها قبل ظهور من يبشرون بواقع جديد يرسم التحولات التي تهدد بنسف مضمون الثقافة العربية من خلال "الحداثة" ونسف شكلها المتمثل في الكتاب من خلال التبشير بانقراضه التام لصالح وسائل معرفية أخرى أخذت تغزو العالم كالإنترنت والفضائيات وتحول المكتبات الورقية إلى أركان المتاحف وزوايا التاريخ المنسي، لتصبح ماضياً غابراً يحكى للأطفال قبل النوم وهم يطلقون صيحات التعجب، كتلك التي يطلقها من يسمع عن ألواح الصخور العملاقة التي كانت صفحات تاريخ قديم لن يعود.
وجهان لعملة واحدة
نحن. . إذن - أمام قضيتين لا يفصلهما عن بعضهما سوى شعرة مهترئة إن صح التعبير - لذا فإن الحديث عن "الحداثة" لا يختلف عن الحديث عن مستقبل الكتاب ف"الحداثة" هي المستقبل المزعوم لمضمون النص في حين أن الكتاب الإلكتروني هو المستقبل المزعوم كذلك لشكل وسيلة المعرفة القادمة، وكلاهما وجهان لعملة واحدة هي العولمة الثقافية التي تهدد باقتلاع كل الثقافات القومية والوطنية لصالحها، وربما لصالح ثقافات شعوب بعينها.
إننا هنا نقف أمام قضيتين في الظاهر، هما "الحداثة" و"مستقبل الكتاب" لكن الواقع يؤكد أنهما قضية واحدة تمثل جوهر الثقافة القادمة، ثقافة العولمة التي اجتاحت المشهد الثقافي العربي لتصبح محور اهتمام المثقفين، وقد كان للمشهد اليمني نصيب كبير وهام في الحديث عن قضايا العولمة الثقافية، وتحديداً
"الحداثة" و"مستقبل الكتاب" القضايا الأكثر تداولاً وإلحاحاً، خصوصاً في العقد الأخير الذي شهد انفتاح الثقافة اليمنية بكافة عناصرها على الثقافات الأخرى، الأمر الذي أفرز العديد من التيارات والجماعات الأدبية، خاصة الشابة منها التي أصبح شغلها الشاغل الدفاع عن القضايا التي تتبناها، ك"الحداثة" أو الأمور التي لا تميل إليها كثيراً- بالطبع - كالوقوف عند عتبات "خير جليس " الذي لم يعد الكتاب لدى الكثيرين بقدر ما أصبح جهاز الكمبيوتر!
حداثيون لا يعرفون "الحداثة". . أو "الحداثة أصل الصورة"
لا أدري تحديداً هل يمت العنوان السابق ل "الحداثة" بصلة لكنني أثرت أن أقترب من أسلوب بعض الحداثيين في كتابة عناوين أعمالهم الأدبية، ليكون ذلك مدخلاً للجزء الأول أو الوجه الأول من هذا التحقيق، الذي لا يحمل إلا وجهين، لكنهما لعملة واحدة، وجهها الأول "الحداثة" كما يراها بعض الكتاب اليمنيين ممن يحاولون الهرب من تراثهم بزعم تجاوزهم للزمن، ليرتدوا - في ذات الوقت - (بزات) غيرهم العتيقة التي صنعت في إنجلترا في القرن السابع عشر وتطورت في فرنسا على يد "بلزاك عام 1823م لتأخذ شكلها الأكثر تطورا على يد "بودلير " في مقالته الشهيرة عن "قسطنطين جوين التي كتبها عام 1859م ونشرها عام 1863 تحت عنوان "وسام الحياة الحديثة" في صحيفة "الفيجارو" وجاء الجزء الرابع من تلك المقالة تحت عنوان "الحداثة".
وهنا نقف طويلاً عند الآراء التي اعتبرت "الحداثة" عدواً وخطراً داهماً، وكذا الآراء المغايرة التي رأت فيها المنقذ من رتابة وقيود الكتابة التقليدية بأشكالها ومضامينها العتيقة.
يقول الرافضون ل "الحداثة" إنها خلاصة للعديد من التجارب والأفكار التي تكونت في الغرب كنتاج طبيعي ومولود شرعي للمراحل الزمنية والمدارس الثقافية التي كانت من التباين بمكان أفضى إلى الحالة التي قادت المثقف الغربي إلى الوقوف عندها وما بعدها، لكن بعض المثقفين العرب حاولوا القفز فوق كل العوائق الطبيعية للوصول إلى تلك المرحلة من دون أن يخوضوا غمار الطريق للوصول إليها أو يمروا بالأسباب التي جعلت منها مولوداً شرعياً لدى من صنعها الأمر الذي خلق هوة ثقافية عملاقة يصعب تجسيرها بين (الحداثي) العربي.
و(الفكرة)التي يقف تحت شعارها، و(الناس) الذين يحاول أن يكتب لهم وعنهم ليقع تحت سطوة وتأثير المصطلحات البراقة.
ويقول الرافضون ل "الحداثة" كذلك في المشهد الثقافي اليمني أن محاولة العديد من الأدباء الشباب تلبس أي حالة فكرية شاذة وغريبة تبدو كمراهقة فكرية ومحاولة للفت الأنظار من خلال المغايرة المزعومة والصادمة التي قامت على أساس رفض الثابت ونقض أعمدة التراث العربي بجميع أشكاله ومستوياته، بل واحتقاره والتقليل من شأنه، الأمر الذي يفسره البعض بأنه عائد في الأساس إلى الخوف من تحمل أعباء استيعابه، كمن يقول الشعر دون أن يكلف نفسه عناء الأساليب والمواصفات الفنية المتوارثة تحت ذريعة ما يسمى ب (التجريب ) والقطيعة مع الماضي بكل مكوناته، لكن ذلك في الأساس قائم على دعوى تتقاطع مع الماضي المتمثل في الرواد الأوائل ل (الحداثة )، ومنهم (كوالتر بنيامين )، الذي يقول: "ينبغي أن نكسر استمرارية التاريخ "، و(ميشيل فوكو)، الذي يقول: "ينبغي أن نكشف عن كل القطيعات أو التقاطعات التي تخترقنا".
أدباء التسعينات. . موقفان من الحداثة
يمكن القول إن جيل التسعينات في اليمن من أكثر الأجيال التي انفتحت على الآخر من خلال ظهور تيارات مختلفة، منها المولع ب"الحداثة " دون تحفظات، والذي يعمل على اقتفاء أثرها ويقف منبهراً أمام روادها من العرب، ك "أدونيس".
وليس خافياً على احد الدور الكبير لأسماء بعينها في التبشير ب"الحداثة" في أوساط الجيل التسعيني في اليمن، مثل: الشاعر "علي المقري" والشاعر "محمد الشيباني"، والذين أعلنوا صراحة عن أنفسهم في منتصف التسعينات من القرن الماضي من خلال مجلة "طيارة ورقية" التي تم تعريفها بأنها "صوت الحداثيين في اليمن".
أما التيار المغاير من الجيل التسعيني في اليمن، فيتمثل في الذين يأخذون موقفاً حاداً ومعادياً - في بعض الأحيان - ل"الحداثة" في الأدب، ومن أبرز الأسماء في هذا التيار الناقد "محيي الدين علي سعيد" الذي يجاهر برأيه صراحة قائلاً: "أنا ضد (الحداثة) الفاسدة، (الحداثة) التي تفسد أذواقنا ولا تترك في نفوسنا شيئاً جميلاً، نحن ضد (الحداثة) التي لا معنى ولا مبنى ولا وزن ولا قيمة لها".
أما الناقد "هشام سعيد شمسان" الذي بشر مؤخراً بانحسار تيار "الحداثة \" في اليمن، معتبراً أن الكثير ممن يتحدثون باسمها لا يفقهون عنها شيئاً، فقد حدد موقفه بالقول:\" أنا مع الكاتب الذي يلتزم شروط (الحداثة) ويمر بشروطها التي تعني أن تقرأ نتاج غيرك، فعندما ننظر إلى حداثي مثل (أدونيس) \"كتب القصيدة العمودية والنص التفعيلي ثم انتقل إلى كتابة النص النثري، فإننا لا نستطيع أن نقول عنه إنه مقلد أو تابع أو مخرب ل (الحداثة) - كما يدعون - فتخريب (الحداثة) له شروطه، لكن الكتاب الذين يكتبون النص الحديث من باب قصيدة النثر أو ما يسمى ب (النص المرسل) لا ينتمون إلى (الحداثة) ولا إلى شروطها ولا يدركون الفرق بين التفعيلة والنص النثري والخاطرة، كما أنهم يخلطون الحابل بالنابل، لذا فإن معظم الحداثيين الموجودين الآن عائمون على السطح ومخدرون - فقط - بما يسمى ب (الحداثة) التي تعني أن تكون منغمساً في التراث من رأسك حتى أخمص قدميك، سواء كان قديماً أو متوسطاً أو ينتمي إلى عصر النهضة الحديثة أو إلى هذا العصر وهذا الزمن الجديد، لذا فإن هجومي على الحداثيين ليس كراهية ل (الحداثة) بمناظير خاصة وفاسدة، إنهم يحاولون تركيب (الحداثة) على (الحداثة) وهم لا يدركون الفرق بينها وبين الأصالة\".